ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق، لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير معصوم.
لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛ أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر البالغ في النفس والجنان؟
صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله،تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.
يقول: فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: سوف أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً.
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها. ولسان حاله يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت!
كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل
يقول كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه- يعني: إعجابه بنفسه -فقال معاذ وقد استنكر الأمر وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت! -والله يا رسول الله- ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت صلى الله عليه وسلم}.
يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!
¥