تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

انظر لذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في الأسواق وفي المساجد ومع الأصدقاء بل حتى مع بني العمومة بل مع الزوجة، فلم تترك منفذاً يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحريك الغاية التربوية منها، كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتؤلف، وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقضي باللين في مكانه والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.

عباد الله: وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء؟ إن هناك صَفَّاً يعمل داخل الصف الإسلامي دائماً، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر وألا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.

يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟ من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.

قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء -هذا من الامتحان- ثم تيممت بها التَّنور، فسجرته بها -أحرقها يا عباد الله- هذا هو ديدن أعداء الله يتحسسون الأنباء ويترصدون الفرص والأخبار، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت وانزلقت.

إن المسلم قد يخطئ لكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر؛ قد يخطئ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.

إن أداة المعصية حين تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرةَ بعد الكرةَ، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة، فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الحل.

إن آلة المعصية التي توجد في المنازل وفي المكاتب وفي غيرهما حين تترك -بعد العلم بضررها والتوبة منها- مدعاة لأن يضعف أمامها يوماً ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها، ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

يقول كعب: فتمت لنا خمسون ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس في الحال التي ذكرها الله -فيما بعد- قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.

قال: فخررت ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفت أن قد جاء الفرج.

وجاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد، وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بسبب صدقه، فقال بعد ذلك: والله ما أنعم الله علي بنعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله! بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون البشائر والجوائز.

يقول كعب: فلما جاءني الذي بشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُه إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبيْن فلبستهما

وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حوله جلوس، فقام إليَّ طلحة فرحاً مغتبطاً يهرول حتى صافحني وهنَّاني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله ما أنساها لطلحة رضي الله عنهم.

الله أكبر! ما أعظمه من تعامل للصحابة مع أخيهم! بالأمس القريب لا يتحدثون معه ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون فيمن يصل إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.

إنه حب الخير لأخيهم كما يحبونه لأنفسهم، ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامر الشارع.

قال كعب: فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهو يبرق سروراً وجهه كأنه فلقة قمر: {أبشرْ يا كعب بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك. فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله} فحمد الله وأثنى عليه.

ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118].

وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.

وظهر الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، هؤلاء هم رجال الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الإيمان، قوة في اليقين، صدق في الحديث، صدق في المواقف، صٌبر عند اللقاء، اعتراف بالخطيئة، كلمة الحق في الرضا والغضب من غير تنميق عبارات أو تلفيق اعتذارات: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.

اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير