تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فبمجرد أن يتصيد مسألة من هنا أو هناك، سمعها في مجلس، أو من شريط، أو قرأها في صحيفة، أو في كتاب، يوالي ويعادى على تلك المسألة.، وأكثر الناس اليوم لا علم له إلا ببعض المسائل، وليتها بالنافعة، وإنما شواذ المسائل، وغريب الآراء، والمهجور من الأقوال، وكأن الشعار "خالف تُعرف" فالخلاف عنده أشهى من الاتفاق.

كنت في صحبة شيخنا العلامة ابن عثيمين، وسألته عن مسألة يدندن حولها الكثيرون، فغضب الشيخ وأخذ يقول: من ذا الذي يحيي هذه المسائل بعد أن ماتت؟ وأخذ يردد ذلك.

فالولع بالغريب والشاذ من الأقوال، وإحياء المسائل المهجورة والتي حسمها أهل العلم منذ زمن بعيد، كل ذلك ـ إن كان عن عمد ـ يدل على خلل واضح، وسوء قصد بين، لا سيما إذا كان الأمر زلَّ فيه عالم من العلماء، ومن هنا حذر أهل العلم من تتبع هذه المسائل التي أسموها بـ " الطبوليات " إذ قيل: " زلة العالم مضروب لها الطبل ".

3. ومن المظاهر الشغب على المخالف والزهو بالمتبع.

فإنك تراه يشغب على من خالفه، ويعاديه، وينفر منه، ويفرح بالمدح، ويزهو بكثرة الاتباع، وبالضد تتميز الأشياء، وتلك من نتاج العصبيات والحزبيات، لعدم تحقيق عقيدة الولاء والبراء فيصير الولاء للمتبع، والبراء للمخالف، وما كان هذا هدي السلف في الخلاف، لا سيما في الفروع، ومن أهم علامات الصادق استواء المدح والذم عنده، فإن لم يكن كذلك فليتهم نفسه.

قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ورضى عنه ـ في سير أعلام النبلاء: عن عبد الرحمن بن مهدى عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.

قلت (أي الذهبي رحمه الله): علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلىَّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن " أهـ

وما أغلاه من كلام، وصدق من قال: الذهبي ذهبي الكلام، حقاً إنه كلام أغلى من الذهب، فالمخلص إذا اتهم لم يكابر، لم يشمخ بأنفه، ولم تأخذه العزة بالإثم فيقول: أنا .. أنا .. أنا، وإنما يخضع ويذعن، ويخاف ويخشى، ويتهم نفسه، ويسيء الظن بها، ويقول: ويلى، وويل أمي، إنْ لم يرحمني ربى.

وعن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنَّك محسن، وأنت جاهل وترى أنَّك عالم، وتبخل وترى أنَّك كريم، وأحمق وترى أنَّك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل.

قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " قلت: إي والله صدق، وأنت ظالم وترى أنَّك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنَّك متورع، وفاسق وتعتقد أنَّك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنَّك تطلبه لله ".

نماذج من أقوال السلف

كان الحسن البصري كثيرًا ما يعاتب نفسه ويوبخها فيقول: تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين.

وكان يوسف بن أسباط يقول: ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص.

كان سفيان الثوري يقول: كل شئ أظهرته من عملي فلا أعده شيئاً؛ لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس.

وكان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان يُسأل الصادقين عن صدقهم، مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟!!

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: من أراد أن يأكل الخبز بالعلم فلتبك عليه البواكي.

وقال الذهبي ـ رحمه الله ـ: ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.

وقال على بن بكار البصري الزاهد (ت 207 هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: " لأن ألقى الشيطان أحب إليَّ من أن ألقى حذيفة المرعشي، أخاف أن أتصنع له، فأسقط من عين الله ".

وفي ترجمة هشام الدستوائي قال عون بن عمارة: سمعت هشاما الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول أنِّي ذهبت يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.

قلت ـ أي الذهبي ـ: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولا لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير