فمعمر بن راشد ثقة ثبت فاضل، وشيخاه في هذا الحديث ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة عابد، وقتادة بن دعامة السدوسي، وهو ثقة ثبت. إلا أنَّ معمر بن راشد قد أخطأ بذكر زيادة: ((بسم الله)) في الحديث؛ إذ إنَّ الجمع من الرواة عن ثابت وقتادة لم يذكروا هذه الزيادة التي تفرد بها معمر مما يدل على خطئه ووهمه بها؛ وذلك أنَّ سليمان بن المغيرة الثقة، وحمّاد بن زيد الثقة وحمّاد بن سلمة الذي هو أثبت الناس في ثابت، ثلاثتهم رووه عن ثابت، عن أنس، به، ولم يذكروا زيادة ((بسم الله)).
وكذلك روى الحديث عن قتادة جماعة لم يذكروا الزيادة؛ فقد رواه سعيد بن أبي عروبة – وهو أثبت الناس في قتادة – وهمّام بن يحيى الثقة، وهشام الدَّستوائي الثقة الثبت، وشعبة بن الحجّاج الثقة الحافظ المتقن، أربعتهم رووه عن قتادة، عن أنس، به، ولم يذكروا هذه الزيادة؛ إذن فليس من المعقول أن يغفل جميع الرواة من أصحاب ثابت و قتادة، فيغيب عنهم حفظ هذه الزيادة، ثم يحفظها معمر بن راشد.
ثمّ إنَّ ثابتاً و قتادة قد توبعا على رواية الحديث، وليس فيه ذكر الزيادة، تابعهما عليه إسحاق بن عبد الله – وهو ثقة حجّة -، وحميد الطويل، وهو ثقة، والحسن البصري الثقة الفاضل.
فغياب زيادة: ((بسم الله)) عند هذه الكثرة يسلط الضوء على أنَّ الوهم في ذكرها من معمر، والله أعلم.
ومن الأمثلة لحديث ثقة خالف في ذلك حديث ثقة أوثق منه:
ما رواه معمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: ((خرجت مع رسول الله ? زمن الحديبية، فأحرم أصحابي ولم أحرم، فرأيت حماراً فحملت عليه، فاصطدته، فذكرت شأنه لرسول الله ?، وذكرت أني لم أكن أحرمت، وأني إنما اصطدته لك؟ فأمر النَّبِيّ ? أصحابه فأكلوا، وَلَمْ يأكل مِنْهُ حِيْنَ أخبرته أني اصطدته لَهُ)).
فهذا الحديث يتبادر إلى ذهن الناظر فيه أول وهلة أنه حديث صحيح، إلا أنه بعد البحث تبين أن معمر بن راشد – وهو ثقة – قد شذ في هذا الحديث فقوله: ((إنما اصطدته لك))، وقوله: ((ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له)). جملتان شاذتان شذ بهما معمر بن راشد عن بقية الرواة.
قال ابن خزيمة: ((هذه الزيادة: ((إنما اصطدته لك))، وقوله: ((ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته لك))، لا أعلم أحداً ذكره في خبر أبي قتادة غير معمر في هذا الإسناد، فإن صحت هذه اللفظة فيشبه أن يكون? أكل من لحم ذلك الحمار قبل [أن] يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله امتنع من أكله بعد إعلامه إياه أنه اصطاده من أجله؛ لأنه قد ثبت عنه ? أنه قد أكل من لحم ذلك الحمار)).
هكذا جزم الحافظ ابن خزيمة بتفرد معمر بن راشد بهاتين اللفظتين، وهو مصيب في هذا، إلا أنه لا داعي للتأويل الأخير لجزمنا بعدم صحة هاتين اللفظتين – كما سيأتي التدليل عليه -.
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري - شيخ الدارقطني -: ((قوله: " اصطدته لك "، وقوله: " ولم يأكل منه "، لا أعلم أحداً ذكره في هذا الحديث غير معمر)).
وقال البيهقي: ((هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه، وقد روينا عن أبي حازم بن دينار، عن عبد الله بن أبي قتادة في هذا الحديث أن النبي ? أكل منها، وتلك الرواية أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما دون رواية معمر وإن كان الإسنادان صحيحين)).
وقال ابن حزم: ((لا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه. إما أن تغلب رواية الجماعة على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من أبي قتادة، ولم يذكر معمراً، أو تسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة؛ لأنه اضطرب عليه، ويؤخذ برواية أبي حازم وأبي محمد وابن موهب الذين لم يضطرب عليهم؛ لأنه لا يشك ذو حسٍّ أن إحدى الروايتين وهم، إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه، وهي قصة واحدة في وقت واحد في مكان واحد في صيد واحد)).
وسأشرح الآن شذوذ رواية معمر، فأقول:
خالف معمر رواية الجمع عن يحيى، فقد رواه هشام الدستوائي – وهو ثقة ثبت -، وعلي بن المبارك -وهو ثقة -، ومعاوية بن سلام -وهو ثقة -، وشيبان بن عبد الرحمان -وهو ثقة -، فهؤلاء أربعتهم رووه عن يحيى بن أبي كثير، ولم يذكروا هاتين اللفظتين.
كما أن الحديث ورد من طريق عبد الله بن أبي قتادة من غير طريق يحيى بن أبي كثير، ولم تذكر فيه اللفظتان مما يؤكد ذلك شذوذ رواية معمر بتلك الزيادة؛ فَقَدْ رَوَاهُ عثمان بن عَبْد الله بن موهب – وَهُوَ ثقة -، وأبو حازم سلمة بن دينار
- وهو ثقة -، وعبد العزيز بن رفيع –وهو ثقة -، وصالح بن أبي حسان – وهو صدوق -؛ فهؤلاء أربعتهم رووه عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، ولم يذكروا هاتين اللفظتين، كما أن هذا الحديث روي من طرق أخرى عن أبي قتادة، وليس فيه هاتان اللفظتان: فقد رواه نافع مولى أبي قتادة -وهو ثقة -، وعطاء بن يسار - وهو ثقة -، ومعبد بن كعب بن مالك - وهو ثقة -، وأبو صالح مولى التوأمة - وهو مقبول - فهؤلاء أربعتهم رووه دون ذكر اللفظتين اللتين ذكرهما معمر، وهذه الفردية الشديدة مع المخالفة تؤكد شذوذ رواية معمر لعدم وجودها عند أحدٍ من أهل الطبقات الثلاث.
والذي يبدو لي أن السبب في شذوذ رواية معمر بن راشد دخول حديث في حديث آخر؛ فلعله توهم بما رواه هو عن الزهري، عن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب، عن أبيه أنه اعتمر مع عثمان في ركب، فأهدي له طائر، فأمرهم بأكله، وأبى أن يأكل، فقال له عمرو بن العاص: أنأكل مما لست منه آكلاً، فقال: إني لست في ذاكم مثله، إنما اصطيد لي وأميت باسمي.
فربما اشتبه عليه هذا الحديث بالحديث السابق، والله أعلم.
¥