فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع فيها من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة , وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة , فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها) [مقدمة ابن خلدون ص 443].ونجد ذم المختصرات كذلك في (المعيار المعرب 2/ 479) للونشريسي حيث يقول: (ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها. وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع , وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع , ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف وانقطعت سلسلة الاتصال , فصارت الفتاوى تنفذ من كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها ... ثم كان أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول الكبار , فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر خطه , وأفنوا أعمارهم في حل لغوزه وفهم رموزه ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح , فضلاً عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح , بل هو حل مقفل , وفهم أمر مجمل , ومطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس , فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ , أبيحت لنا تقييدات الجهلة بل مسودات المسوخ).وإذا أتينا لعصرنا وجدنا عدداً من العلماء والباحثين ذم المختصرات كأحمد أمين [انظر: صخر ألإسلام 4/ 214]، والطاهر بن عاشور والشيخ علي الطنطاوي.
يقول الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته [2/ 43]: (وأثرت بعض المشايخ لما فقدت طريقتهم في الدعوة إليه وفي تلقين المتعلمين أحكام شريعته , وكانت في الحق أسوأ الطرق في التدريس في كتب ألفت على أسوأ الأساليب في التأليف , متن موجز إيجازاً مخلاً , كأن مؤلفه بخيل كلف بأن يرسله في برقية — إلى استراليا يغرم أجرتها من ماله , فهو يقتصد في الكلمات لتقل عليه النفقات وانظروا "جمع الجوامع" و "التحرير" في الأصول مثالاً على هذه المتون وقابلوا أسلوبه بأسلوب الغزالي في "المستصفى" كانت أكثر الكتب التي يعكفون عليها بعيدة عن البيان بعد الأرض عن السماء معقدة العبارة أعجمية السبك , وإن كانت عربية الكلمات , فيأتي من يوضح غامض المتن فيدخل جملة من عنده بين كل جملتين منه كما يرقعون اليوم الجلد المحروق من الآنسان بقطعة جلده السليم , فينتج الرتق أو يظهر الفتق وهذا هو الشرح. ويأتي من يضع لهذا الشرح حواشي وذيولاً يطوله فيها فيجمله أو يقبحه و يعطله , وهذه هي الحاشية).
ويقول الطاهر ابن عاشور: (فكان سائر الناس ينظر إلى تأليف المشرق نظر المشوق ويتهافتون لتحصيلها , ولكن نشأتهم من ذلك ولع بحب الاختصار وبكثرة فخرجوا من جادة العلم إلى مناقشات اللفظ والتعقيدات , ومن العجب أن صار المؤلف يصرف جهده إلى أن تكون عباراته مضبوطة جارية على الصواب , لكنها غير واضحة في مراده , فكأنه يقتنع بكونها مؤدية للمراد في ذاتها بقطع النظر عن عسر استفادة مطالعها ذلك منها.
ويضيف: نشأت عقدة اللسان واستتار المسائل تحت الألفاظ واشتغال المؤلفين عن النقد والعناية باختزال حرف أو نقص كلمة كما فعل خليل , وابن ألسبكي , والمحلي , والخونجي , حتى صار الكاتبون ينتقدون صاحب الاختصار في بعض التراكيب بأنه لو قال كذا لكان أخصر فضعفت الأفهام , وتهيأت لشرح تلك المغلفات , وإضاعة بقية الأوقات , والخصومة في معاني الكلمات , هل تدل على ما قصده المؤلف أولا , فمن قائل نعم , ومن معترض بلا ومن ناقد للاعتراض ومنتصر , وبعد طول الزمان صرفت الأذهان عن الفائدة ونسي المؤلفون خطتهم فأصبحت لا ترى التأليف إلا مناقشات وخصومات في الألفاظ والعبارات , وفي ذلك يضيع عمر الطالب ويخور فكره , ويصبح رجلاً قادراً على المكابرة واللجاج بغير حجاج , فماذا بقي للعلماء من مجدهم القديم , انحصرت دائرة التأليف في نقل ما قاله المتقدمون , ترى تأليفاً يظهر بعد آخر , ولا تجد شيئاً جديداً أو رأياً أو تمحيصاً) [أليس الصبح بقريب ص 165, 167].
¥