ولعلَّ الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد عانى من مثل هؤلاء أعداء النجاحات ومتتبعي الزلات، فقال لهم بصريح العبارة: « .. فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدّعي العصمة» (22).
وكم يكدّر صفوك الرائق وقاحةُ قولٍ في تبيين الحق وإنكار المنكر وردِّ الخطأ! ولا أدري أين أصحاب تلك الإسفافات من «قول الإمام الشافعي لصاحبه المزني حين سمعه يقول: فلانٌ كذّاب، فقال له: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظَك! أحْسِنها، لا تقل: كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء» (23).
وليت الإمام الشافعي يأتي ليؤدب أولئك المتبجحين الذين امتهنوا عيبَ الأعلامِ، وانتقاصَ إخوانهم الدعاة صَنْعةً يتفاخرون بها في مجالس النجوى والوقيعة.
* لا تُُعِنْ على سَفكِ دمِ الدَّعوة:
كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات، بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان!
وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً!
وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشة أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله!
واستمع إلى التابعي المخضرم الثقة أبي معبد الجهني ـ رحمه الله ـ لتعي ما أقول:
«ففي حلقةٍ دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام، المكلّف باستدراك ما صنعته الفتنة، حاضرَ عبد الله بن عكيم، وطفق يلخّص لهم تجارب المخلصين، فقال:
(لا أُعينُ على دم خليفة أبداً بعد عثمان).
وكانت كلمة مثيرة منه حقاً .. وتأخذُ الجميعَ إطراقةٌ؛ فما ثَمَّ إلا عيونٌ تتبادل النظر مستغربةً ما يقوله الرجلُ الصالح. ما لهذا الشيخ البريء المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفاً أبداً يتّهم نفسه ويلومها على ما لم تفعل؟
وينبري جريءٌ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أوَأعنتَ على دمه؟).
فيقول: (إني أرى ذكرَ مساوئ الرجل عوناً على دمه؟).
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان؛ لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه، وقام في نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف طوّروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه» (24).
أظنك وعيتَ الوصية؛ فلا تُعِنْ على سفك دم الدعوة.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بكلامِ سوءٍ وقدحٍ في إخوانك همْ منه بَراء.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بتتبع زلات الدعاة لفضحهم، وهتك أستارهم لمجرد الاختلاف معهم.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بغيبةٍ أو بُهتانٍ لرموزها وأشياخها.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بإعطاء المتربصين فرصةَ انقضاضٍ لفُرقةٍ في الصَّف.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بوشاية عن أخيك عند ظالمٍ جائر أو مخاصمٍ فاجر.
+ وختاماً أيها الأخ الكريم!
إن كنت ممَن استزلّه الشيطان يوماً فوقع في أعراض بعض العلماء الربانيين أو الدعاة العاملين فَأْرِزْ إلى ناحيةٍ من مسجدٍ عتيق تجدُ فيه قلبك، وابكِ على خطيئتك، وأعلنها توبة نصوحاً لا نكوص بعدها، وردد بإخباتٍ وانكسارٍ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
وإن كنت ممن قد تناوشه باغٍ بأباطيل زائفة وأكاذيب مرجفة فلا تقف ولو للحظة واحدة تلتفتُ فيها إليه، فدَعْوتك إلى تلك اللحظةِ أحْوَج، وردد بصوتٍ يَسْمعُه وأنت ماضٍ عنه: {لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].
وما أروع ما رواه الإمام الذهبي عن يونس الصدفي حين قال: «ما رأيتُ أعقل من الشافعي: ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟!» (25).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
¥