قال البدر العيني في ((عمدة القاري)): ((فيه الحرص على العلم والخير، فإن الحريص يبلغ بحرصه إلى البحث عن الغوامض ودقيق المعاني، لأن الظواهر يستوي الناسُ في السؤال عنها، لاعتراضها أفكارهم، وما لَطُفَ من المعاني لا يسأل عنها إلا الراسخ فيكون ذلك سببًا للفائدة، ويترتب عليها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) اهـ.
وهذا جابر بن عبدالله الأنصاري -رضي الله عنهما- يرحل من المدينة النبوية إلى مصر -مَسِيرة شهر على البعير- من أجل سماع حديثٍ واحد، خاف أن يموتَ ولم يَسْمَعْه.
وأخرج الدارمي بسندٍ صحيح عن عبدالله بن بريدة: ((أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحلَ إلى فَضَالَة بن عُبيد وهو بمصر، فقدمَ عليه، فقال: أما إني لم آتِكَ زائرًا، ولكن سمعتُ أنا وأنتَ حديثًا من رسول الله r رجوتُ أن يكون عندك منه علم ...
وعدَّد الحافظ في ((الفتح)): (1/ 210) أمثلة ثم قال: ((وتتبُّع ذلك يكثُر)).
وقد ألَّف الخطيبُ كتابه ((الرحلة في طلب الحديث)) فيمن رحل في طلب حديث واحد.
* شيء مما جاء عن السَّلف:
وهكذا كان ذلك الجيل الفريد قدوة لمن بعدهم، في عكوفهم على العلم، وطلبهم للاستزادة منه، فاحتذوا حذوهم، واقتفوا أثرهم، وشواهد ذلك ماثلة:
فهؤلاء تلاميذ ابن مسعود -رضي الله عنه- في الكوفة - علقمة والأسود وغيرهم - كانوا إذا سمعوا الحديث والعلم من شيخهم، لم يشف ذلك مافي صدورهم من النهمة، فيرحلون إلى المدينة طَلبًا للعلوِّ وزيادة في التثبت، وإمعانًا في الطلب والتلقي من أفواه العلماء.
قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيتُ أحفظَ منه (أي: سفيان الثوري 161) كنتُ إلا سألته عن مسألةٍ أو عن حديثٍ ليس عنده، اشتدَّ عليه.
فلم يقف العلماء في طلبهم عند حدٍّ محدود، بل استوعبوا قدر الاستطاعة والطاقة، فضربوا بذلك أعجبَ الأمثلة، وأغربَ السِّيَر.
قال الأعمش: كان مجاهد (104) لا يسمع بأُعجوبة إلا ذهب لينظر إليها! ذهب إلى حَضْرَمَوْت ليرى بئر برهوت، وذهب إلى باب وعليه والٍ، فقال له مجاهد: تعرض عَلَيَّ هاروت وماروت ... ؟.
وذكر ابن حَزم عن يحيى بن مجاهد الزاهد قال: كنتُ آخذ من كلِّ علم طَرفًا، فإن سماع الإنسان قومًا يتحدثون وهو لا يدري ما يقول غُمَّة عظيمة، أو كلامًا هذا معناه.
قال أبو محمد (أي ابن حزم): ((ولقد صدق - رحمه الله -)).
وهذا الإمام الدارقطني (385) - رحمه الله - وهو من هو تضلُّعًا في علوم الحديث والفقه والقراءات، إلا أنه كان حُفَظَةً للأخبار والنوادر والحكايات.
قال الأزهري: كان الدارقطني ذكيًّا، إذا ذكر شيئًا من العلم (أيّ نوع كان) وجد عنده منه نصيب وافِر، لقد حدّثني محمد بن طلحة النعالي أنه حضر مع الدارقطني دعوةً، فجرى ذِكْر الأَكَلَة، فاندفعَ الدارقطني يورد نوادر الأَكَلَة حتى قطع أكثر ليلته بذلك.
وقال الإمام محمد بن عبدالباقي الأنصاري (535) عن نفسه: ((حفظتُ القرآن ولي سبع سنين، وما من علمٍ في عالم الله إلا وقد نظرتُ فيه، وحصَّلتُ منه بعضه أو كله)).
ولما أُسِر في أيدي الروم قيَّدوه، وجعلوا الغل في عنقه، وأرادوا منه أن ينطق بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلَّم منها الخطَّ الرومي.
أقول: وما سيرة ابن حزمٍ (456)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (728)، وابن الوزير (840) عنَّا ببعيد، وما خلفوه من تراثٍ خَيْر حافظ على ذلك وشهيد.
وخذ مثالاً للدلالة على سَعَة اطلاع شيخ الإسلام، قال الصفديُّ - تلميذه -: ((أخبرني المولى علاء الدين عليُّ بن الآمدي - وهو من كبار كُتَّاب الحساب - قال: دخلتُ يومًا إليه أنا والشمس النفيس عامل بيت المال - ولم يكن في وقته أكتبَ منه - فأخذ الشيخ تقي الدين يسأله عن الارتفاع وعما بين الفَذْلكة واستقرار الجملة من الأبواب، وعن الفَذْلكة الثانية وخَصْمها، وعن أعمال الاستحقاق، وعن الخَتْم والتوالي، وما يُطلب من العامل. وهو يجيبُه عن البعض، ويسكت عن البعض، ويسأله عن تعليل ذلك؟ إلى أن أوضح له ذلك وعلَّله، قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلَّمت اليومَ منه مالا كنت أتعلمه. انتهى ما ذكره علاءُ الدين)).
واستمع إلى هذا الوصف العجيب، الذي يُوْقِفُك على سَعَة اطلاع شيخ الإسلام، ذكر السخاوي في ((الجواهر والدرر)) عن القاضي شمس الدين بن الديري يقول: ((سمعتُ الشيخَ علاء الدين البسطامي - ببيت المقدس - يقول وقد سأله: هل رأيت الشيخ تقيَّ الدين ابن تيميَّة، فقال: نعم. قلتُ: كيف كانت صِفَتُه؟ فقال: هل رأيتَ قُبَّةَ الصَّخرة؟ قلت: نعم. قال: كان كقُبَّة الصخرة مُلأ كتبًا لها لسان ينطق!!)) اهـ.
ولا ريبَ أن هذا التنوع المعرفي لم يتَّأتَّ من فراغ وبطاله، ولكنه جُمِع بطول السَّهر، واغتنام العمر، ومنادمة الكتاب والاستِغناء به عن الصّحاب والأحباب.
¥