ثم نظر بعضنا إلى بعض متعجبين إذ لم يبق إلا ساعات قلائل .. والوقت في المنطقة الشرقية يمرُّ سريعاً حتى إنه ليتضايق الزائر من سرعة مروره .. ويعبر بعضهم بألفاظ مضحكة .. منها ما يقوله بعضهم: لو كنت أعيش معكم لما خرجت من المسجد إلى بيتي .. لأنني لن أجد وقتاً يوصلني إلى بيتي حتى أسمع الأذان مرة أخرى فأعود إلى المسجد.
ذهب الشيخ إلى منزله وكان يقع غربي المسجد .. وبعد العشاء يجلس على الطاولة الكبيرة المعدة للمحاضرات .. ويتحدث قرابة ثلاث ساعات عن موضوع الأخوة في الله .. لم يتردد ولم يتلعثم ولم يكرر عبارةً مرتين؛ وكأنه قد أعد الموضوع منذ سنوات خلت .. فعلمت أن الله تعالى قد رزقه بركة الوقت بإخلاصه نحسبه كذلك ولا أزكيه على ربه تعالى ..
*****
اتصل بي مرة يوم الجمعة بعد صلاة الفجر وطلبني للحضور إلى منزله .. فأعطاني جزءاً من كتاب المغني لابن قدامة المقدسي رحمه الله، قال لي: أكتب كل ما تجد تحته خطاً في هذه البطاقات وأتني به كي أجعله موضوع الخطبة اليوم .. وناولني بطاقات بيضاء كان الشيخ يكتب فيها الخطب والمحاضرات فيما مضى فقلت له .. : ساعة واحدة وأوافيك به إن شاء الله، فضحك وقال: لا أظن ولكني أريده قبل الحادية عشرة ..
فكتبت وكتبت حتى كلَّت يدي .. فما انتهيت إلا قرابة العاشرة والنصف صباحاً، وكان الموضوع عن (أحكام اللقطة)، فأخذها دون ترتيب ولا ترقيمٍ للكروت ..
فذهبت إلى الجامع وأنا بي من الخوف مالا يعلمه إلاَّ الله أن أكون قد بعثرت الموضوع على الشيخ ..
فلما صعد المنبر تسارعت نبضات قلبي .. فتحدث الشيخ قرابة الساعة .. لم يحتج أن يتردد لحظة أو يشكل عليه ما كتبت له .. فكأنه هو الذي كتب تلك الأسطر التي كلفني بها.
*****
وفي ليلة .. أنا وهو في البيت ما معي أحد غيري وغيره .. قلت له: يا شيخ ما تقول في إمام يفسر الآيات التي سيقرؤها في صلاة الفجر بين الأذان والإقامة؟.
قال - بلا تردد -: لا أعلم! سأتصل بأبي عبد الله وأسأله.
فطرأ على بالي كلُّ أبي عبد الله في العالم واحترت أيهم يعني .. فاتصلَ بأبي عبد الله!، وجعل الهاتف على مكبر الصوت فسمعت صوتاً حبيباً إلى قلبي وقلوبكم .. إنه صوت الحبيب الذي ودعناه في يوم الخميس الموافق 27/ 1/1420هـ، إنه صوت العلامة الوالد: ابن باز رحمة الله عليه ..
فتحت فمي، وأنا أرى الشيخ يتحدث مع الإمام بدعابة تارة وتارة عن قضايا فقهية وعقدية؛ وأبو أنس يكتب والهاتف يسجل .. فسأله سؤالي ..
فقال الشيخ بالنص ولا زلت أذكر: " لا بأس .. هذا عمل طيب .. أول مرة أسمع بمثل هذا ... ".
فطارت هذه الفتوى إلى ذلك الإمام وهو الشيخ فؤاد قاضي حفظه الله؛ وكان وقتذاك برتبة (رائد) في سلاح البحرية بالجبيل، وهو رجلٌ لا أعرف عنه إلاَّ أن همَّ الإسلام يكاد يسيطر على قلبه وفكره في كل حين منذ كان برتبة (ملازم) في أمريكا .. وفقه الله؛ وهو اليوم برتبة (عميد) قائد كلية الملك فهد البحرية بالجبيل .. فرح بها الشيخ: فؤاد؛ فرح من وجد ضالة عزيزة غالية ..
سألت الشيخ أبا أنس مرة قبل سنوات: هل أقول للناس أني تلميذك؟، وكنا سوياً في سيارته ذاهبين إلى الدمام في منتصف الليل؛ فسكت برهة ليست بالقصيرة؛ فظننت أنني كما يقال بالعامية (خبّصت)!! في السؤال، فقال: " سألت ابن باز هذا السؤال فقال التلمذة تحصل بأقل من هذا؛ فلو قرأت كتاباً على شيخ أصبحت تلميذَه ".
وأذكر أن أول قصيدة بالفصحى كتبتها في حياتي كانت في مدح الشيخ منها ..
هذا المنجّد يا من تسأل الخبر ... تهدي إلى الناس من ألفاظه الدرر
بيضٌ الحروف التي باتت مرصعة ... من خالص الصدق لا زيف ولا بطر
هذا الذي أسعدت عينيّ رؤيته ... يزهو به الساحل الشرقي والخبر
إلخ .. وهي ضعيفة في مبناها لكني كنت أراها قوية في معناها ..
*****
وبعدُ .. فالذكريات معه؛ طويل طريقها. ولو ذهبت أذكر كل ما أعرفه عنه لاحتجت إلى مجلد ضخم .. ولست صوفياً أبغي الفتنة .. بل متبعاً أبتغي السنة في ذكر محاسن المؤمن .. وشكر من أولاني نعمة عظيمة؛ لأن ذلك من شكر الله .. ومن لا يشكر الناس؛ لم يشكر الله تعالى.
وأي نعمة أفضل من نعمة العلم والأدب ..
*****
¥