الشّاهد- معاشر القرّاء الكرام - أنّه يحرم تتبّع عثرات العلماء، والتّنقيب عن أخطائهم، والتّشهير بهم، والحطّ من مرتبتهم، فإنّه نقص كبير وشرّ مستطير. ولا ينبغي لنا أن نتقمّص قميص النّساء في كفرانهنّ للعشير، يحسن إليها زوجها الدّهر كلّه، فإذا رأت منه ما تكره قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ.
قد ينبت الدّم على مرعى الثّرى وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
أيذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيّامي وحسن بلائيا
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
وأختم أخي القارئ مقالتي هذه بكلام نفيس، للشّيخ عبدالرّحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، حيث قال في " فتاويه ":
- التَّعَامُلُ مَعَ خَطَأِ العَالِمِ
ومن أعظم المحرّمات، وأشنعِ المفاسد: إشاعةُ عثراتِهم، والقدح فيهم في غلطاتهم، وأقبحُ منهذا إهدارُ محاسنِهم عند وجود شيء من ذلك، وربّما يكون–وهو الواقع كثيراً-أنّ الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويلٌ سائغٌ، ولهم اجتهادهم فيه، معذورونوالقادح فيهم غير معذور؛ وبهذا وأشباهه يظهر لك الفرق بين أهل العلم النّاصحين، والمنتسبين للعلم من أهل البغيِ والحسدِ والمعتدين، فإنّ أهلَ العلمِ الحقيقيّ قصدُهمالتّعاون على البرّ والتّقوى، والسّعي في إعانة بعضهم بعضاً في كلّ ما عاد إلى هذاالأمر، وستْرُ عورات المسلمين، وعدم إشاعة غلطاتهم، والحرصُ على تنبيههم بكلّ ممكن منالوسائل النّافعة، والذّب عن أعراض أهل العلم والدّين، ولا ريبَ أنَّ هذا من أفضلالقُرُبات.
- ثمّ لو فُرِض أنّ ما أخطئوا أو عثروا فيه ليس لهم تأويلٌ و لا عذر، لم يكن منالحقّ والإنصاف أن تُهدَر المحاسنُ وتُمحَى حقوقُهم الواجبةُ بهذا الشّيء اليسير، كما هودأبُ أهل البغيِ والعدوانِ، فإنّ هذا ضررُه كبيرٌ وفساده مستطيرٌ .. أيُّ عالِمٍ لم يخطِئْ؟ وأيُّحكيمٍ لم يَعْثُرْ؟ ..
يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم: كتب له إنسان منأهل العلم والدّين ينتقده انتقاداً حارًّا في بعض المسائل، ويزعُم أنّه مخطئٌ فيها حتّىإنّه قدح في قصده ونيّته، وادّعى أنّه يَدِينُ اللهَ ببُغضِه بناءً على توهُّم من خطئه، فأجاب المكتوب له:
((يا أخي، إنّك إذا تركتَ ما يجب عليك من المودّة الدينيّة، وسلكت ما يحرُمُ عليك من اتّهام أخيك بالقصدِ السيِّئ على فرضأنّه أخطأ، وتجنّبت الدّعوة إلى الله بالحكمة في مثل هذه الأمور، فإنّي أخبرك قبل الشّروع في جوابي لك عمّا انتقدتني عليه: بأنّي لا أترُكُ ما يجب عليَّ من الإقامة علىمودّتك، والاستمرارِ على محبّتك المبنيّة على ما أعرفه من دينِك انتصاراً لنفسي، بلأزيد على ذلك بإقامة العذرِ لك في قدْحِك في أخيك، بأنّ الدّافع لك على ذلك قصدٌ حسن، لكنْ لمْ يصحبْه علمٌ يصحِّحه ولا معرفةٌ تبيّن مرتبتَه، ولا ورعٌ صحيحٌ يوقِف العبْدَ عند حدّه الّذي أوجبَه الشّارع عليه، فلحسن قصدك عفوتُ لك عمّا كان منك لي من الاتّهام بالقصد السّيّئ، فهب أنّ الصّواب معك يقيناً، فهل خطأُ الإنسان عنوانٌ على سوء قصده؟ فلو كان الأمر كذلك، لوجب رمْيُ جميع علماء الأمّة بالقُصود السّيئة! فهل سلم أحد منالخطأ؟! وهل هذا الذي تجرّأت عليه إلاّ مخالفٌ لما أجمع عليه المسلمون من أنّه لا يحلّ رميُ المسلمِ بالقصدِ السّيّئ إذا أخطأ؟!
الله عز وجل قد عفا عن خطأ المؤمنين في الأقوالوالأفعال، وجميع الأحوال .. ثمّ نقول: هبْ أنّه جاز للإنسان القدحُ في إرادة من دلّتالقرائِن والعلامات على قصده السّيّئ، أَفَيَحِلُّ القدحُ فيمن عندك من الأدلّة الكثيرةُ علىحسن قصده، وبعده عن إرادة السّوء ما لا يسوّغ لك أن تتوهّم فيه شيئا بما رميته به، وإنّ الله أمر المؤمنين أن يظنّوا بإخوانهم خيراً إذا قيل فيهم خلافُ ما يقتضيهالإيمان، فقال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَوَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور12].
واعلم أنّ هذه المقدّمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت، فإنّي كما أشرتلك: قد عفوت عن حقّي إن كان لي حقّ، ولكنّ الغرض النّصيحة، وبيان موقع هذا الاتّهاممن العقل والدّين والمروءة الإنسانيّة))
من الأخطاء الّتي نقرأها ونسمعها قولهم: (مُسبَقة) -بتسكين السّين وتخفيف الباء-، مع أنّ الفعل ثلاثيّ فإمّا أن يقولوا: سابقة أو مسبوقة، لكنّ في مسألتنا هاته وفي حال هؤلاء يصدق فيهم قولنا (مُسْبَقة)، لأنّ المعنى حينئذ يكون هو المسابقة إلى الشّيء، قال ابن منظور رحمه الله في " لسان العرب ": " أسْبَقَ القومُ إلى الأَمر وتَسابَقوا بادروا " اهـ، والحقّ أنّنا رأينا هؤلاء-عفا الله عنّا وعنهم- يتسابقون إلى اتّهام إخوانهم.
" مجموع الفتاوى " (3/ 349).
] "مدارج السّالكين" (1/ 312)
] " مجموع الفتاوى " (7/ 405)
] "مفتاح دار السّعادة" (1/ 176).
[" نقض التّأسيس " (2/ 82).
" مجموع الفتاوى " (8/ 230).
[" الجواب الصّحيح " (1/ 252).
[" النبوّات " (220).
[] " مجموع الفتاوى " (4/ 12 - 13)
[] " سير أعلام النّبلاء " (10/ 254).
[] يقصد بذلك أنّهم فوّضوا العلم بحقيقتها وكيفيّتها، أمّا معناه فمفهوم لديهم رحمهم الله.
[] " سير أعلام النّبلاء " (14/ 374).
[] " السّير " (14/ 373). وقوله رحمه الله: " وإن كان حقّا " أي: في تلك البيئة الّتي كانت السنّة فيها واضحة بيّنة، وبعد إقامة الحجّة، أمّا بعد أن اعتقد كثير من المسلمين بعقيدة الأشاعرة والمعتزلة وألّفت في ذلك الكتب، وأقيمت لذلك الجامعات والتّأصيلات، فلا ريب أنّ الحكم مختلف كثيرا.
[] " السّير " (16/ 96).
[] " السّير " (14/ 40).
[] " الفتاوى (47) ".
¥