يا نَشْء أَنْتَ رَجَاؤُنَا
ـ[محمّد حدّاد الجزائري]ــــــــ[02 - 11 - 08, 03:08 ص]ـ
يا نَشْء أَنْتَ رَجَاؤُنَا
أيّها الطّالب الحبيب -و الطّالب أقصد به الذّكر و الأنثى إطلاقا و تغليبا-؛ إنّي راوٍ لك قصّةً فتأمّلها و احفَظها، فإنّك قد لا تجدها عند غيري و لا أظنّ أنّك واجد، ذلك أنّ طريقها عزيز غريب، و راويها قد واراه مأوى كلّ غريب، حتّى تعلم أنّ جملة الإمام ابن باديس _رحمه اللّه_ الّتي جعلتُ صدرَها عنوانا لهذا المقال، ما خرجت على لسانه إلاّ بعدما اقْتاتَت مِن قلبه اقْتِياتا يَكشِف سرّ خلود الرّجل و كلماته، لتَعقِل بعد ذلك ضرورة إيجاد الجملة منزلةً في قلبك.
فضيلة الشّيخ لخضر جبروني _رحمه اللّه_؛ كان رجلا مِن روّاد مسجد حيّي و هو أحد تلامذة ابن باديس الّذين عاصرتُهم و اكْتَحَلتْ عيني برؤيتِهم، سُئل يوما مِن طرف شيخنا عبد الفتّاح زِراوي _العضو بأحد فروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و المشرف العام على موقع ميراث السنّة_عن بعض مواقف الإمام، فأجابه بالحديث عمّا رآه بعينه فقال؛ جاء الإمام عبد الحميد بن باديس _رحمه اللّه_ إلى الجامع الأخضر بقسنطينة لإلقاء درسه المعتاد في تفسير القرآن الكريم و النّاس في الزّمان و المكان منتظرين، حتّى إذا وصل عند عَتَبَة باب الجامع وقف هُنَيَّةً، ينظر إلى ساحة الجامع و قد غَصَّت بالطلاّب و المتعلّمين ينتظرون الدّرس مُتزاحِمَةً رُكَبهم مُشرئِبَّةً أعناقهم، ثمّ يُجاوز الإمام العَتَبة قاصدا كرسيّ درسه متخطِّياً الجموع المتزاحمة، و هو يُردِِّد بصوت مسموع مُتهلِّلَ الوجه مُغْرَوْرِقَ العينين ذارِفَ الدّموع على الخدّين قائلا: "يا نشء أنت رَجاؤُنا و بك الصّباح قد اقترب".
رحمكَ اللّه أيّها الإمام و طيّب ثَراكَ و جَعَل الجنّة مُتقلَّبكَ و مَثْواكَ؛ فكم أحيَيْتَ مِن قلوب و حرَّرْت مِن عُقول، فجَعلتَ مِن أصحابها أنواراً للمهتدين و نيراناً على المعتدين.
رائِعة مِن روائع الشّيخ العلاّمة المُصلح الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه اللّه-، رَسَمَت هذا البيت و ما قبله و ما بعده، و إنّما انْتَقَيْتُه دون بقيّة الأبيات لقوّته و مباشرته الخطاب، وُجِّه للنّشء الّذي عاصر الإمام و لا يزال يُوَجَّه لكلّ ناشِئٍ مُمَيِِّزٍ عاقل، فكأنّما كُتب على لوحة سماوية تُظِلُّ مَن تحتها فلا يستطيع أحد لها مسحا و لا طَمْسا، بيت قد حَفظتَه أيّها النَّشء كما حَفظَه سابِقوك، بل رَسَخ في حافِظَتك و ذاكرتك رُسوخا قويّا لا يتَزعزع، فأنت المُردِّد و المُنشِد إيّاه رِدْحا مِن زَمَنٍ لا يزال يمضي بك على مقاعد الدّراسة.
فبارك اللّه في هذه الحافظة و الذّاكرة الّتي وَجَدَت فيها العلوم و الأنوار مُتَبَوَّئا، لكنّني أستسمحكَ أيّها الطّالب العزيز سائلا؛ هل وجَدَت تِلك الكلمات مع رُسوخها الذّهني مكانةً في قلبك و وعياً مِن عقلِك؟ أم هي مجرّد كلمات تُردّد و عبارات تُلفظ لا تكاد تُجاوز حنجرتك؟!.
و ليس لمِثلك بدينِك و جزائريّتِك أنْ يكون حظّه مِن البيت التَذكُّر على حساب التَدبُّر، و المَباني على حساب المَعاني، و التَّسْلِية على حساب التَّحْلِية، و ما هذا إلاّ لأنّ البيت قد خرج مَخْرَج الوصيّة للأبناء و الأحفاد، مُتجاوزا المعنى الضيّق للوصايا الّتي تراعي عادةً أمور الأموال و الأوقاف و المواريث ... ، بل هي وصيّة ذهبيّة مِن رَجل ربّاني إلى أجيال متعاقبة في أزمنة متلاحقة، قد جاءت لغتها سهلة العبارة واضحة المعنى؛ فالمُخاطَب هم الطلاّب و الشّباب الّذين ترجو منهم أمّتهم رفع الجهل عنها و الذلّ الّلذان يُشَبَّهان عادة باللّيل و الظّلام، فيكون اجتهادهم و سعيهم لتحقييق هذه الرّسالة النّبيلة صباحا يقترب فيبزغ فجره بعد ليل مُظلِم و يُضيءُ نوره بعد ظلام دامِس، يزداد اقتراباً كلّما قوي الاجتهاد و زاد السّعي حتّى يُؤسَّسُ لأسباب عِزَّة الأمّة و تمكينها.
فلا تجعل نفسَك أيّها الطّالب الغالي استثناءً مِن المُوصَى له و المُوصَى به، بل أنت المُخَصَّص و الأَولى بذلك ما توجَّه إليك الخِطاب قراءةً منك و استماعاً، فقد أضحى لغيرك خبراً و لك إنشاءً.
أيّها الطّالب البارّ؛ و اللّه لقد حَرَّك موقف الإمام في نفسي أشْجانا و استدرّ مِنّي دموعا، فهلاّ وَجَد ذلك مِنك على الأقلّ تأمّلا في كلماته و أخْذاً العبرةَ منها، فإنّها رسالة تنفعك أكثر مِن مئات الرّسائل، إذا كان لك قلب و ألقيت السّمع و أحسنت الوفاء.
و هذه بلادك الجزائر؛ قد خَلَت مِن المُسْتدمِرين بجُهد العلماء المصلحين و جهاد الأبطال المجاهدين بعد فضل اللّه سبحانه، فإذا بها أرض حُرَّة غَنَّاء تُكْرِم و تأوي أهلها بعدما سُقِيَت جنّاتها عَرَقا و دما، فحافظ أيّها الوَلَد على يوْمِها و غَدِها كما حَافظ أولئك على أَمْسِها، و ستجدها كريمَةً مِعطاءةً ما أكرمتَها و أعطيتَها تفكيركَ و جُهدك في تثبيت راية الإسلام و التّوحيد عليها، و تأسيس أسباب التفوّق الحضاري فيها.
و لا تُشغلنَّك سَفاسِف الأمور و هَنّات الطّريق عن الوصية و المُضي في تحقيقها، فَكُنْ كالعَلْياء و الجبل الشّامخ، و إيّاكَ أن تلتفت لنداء خبيث أو تُجيب دعوى مفرِّق أو تنظر إلى بريق مُغري.
فلا يزال الرّجاء مُعَلَّقٌ فيك بالقيام على ما يَحفظ دينك و ينهض بوطنك، حتّى يَكتب اللّه على يديك إشراقاً بعد ليلة ظَلْماء، و حياةً بعد موتٍ على الرَّمْضاء، و فَرَجاً بعد لأْواء.
كُن خير سلَفٍ لخير خَلَف، و إنّي داعٍ أنْ يحفظكَ اللّه سبحانه و يوفّقكَ إلى ما يُحبّ و يرضى، و يحَبِّب إليك الإيمان و يزَيِّنه في قلبك و يَجعلك مِن الرّاشدين، و أسأله الواحد الأحد أنْ يَقيك مِن الشّرور و الفِتن و يرفع بك الهموم و المِحن، و يقيم بك الدّين و يكتُب على يديك رجاء الأمّة.
أيّها الطّالب الحبيب العزيز الغالي ... ؛ يا نشء أنت رجاؤُنا و بك الصّباح قد اقترب ...
أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
[email protected]
الثّلاثاء 14 شوّال 1429هـ، الموافق لـ: 14 أكتوبر 2008م