وكلا الطرفين قد قلب المنهج الشرعي الصحيح؛ فالأولون جعلوا الأشخاص محورا للرد؛ ولو بالعدوان عليهم، وارتكاب مفاسد أعظم بحجة رعاية المنهج، والآخرون جعلوا الأشخاص محورا للرعاية أو المجاملة؛ ولو على حساب المنهج.
فصار الأصل ـ عند كلا الطرفين ـ استثناء والاستثناء صار أصلاً؟
والمنهج الصحيح ما ذكرناه من العناية ببيان العلم، والقيام بمهام التربية، وأن يكون الأصل مع المخالفين الرد على أفكارهم ونقض أقوالهم دون مواربة، مع عدم التعرض لأشخاصهم إلا في استثناءات نادرة، شرطها أن لا تعود على الأصل بالإبطال.
وأعظم شبهة للمبالغين في منهج إسقاط المخالف وتعريته هي ما يرونه من خطر تغريره بالناس، وتأثرهم بمنهجه؛ فلا سبيل إلى رد باطله إلا بهذا المنهج.
وانتهاج هذه الطريقة يعكس عند صاحبها إحباطاً، أو قلةً في الثقة في حجته، أو ضعفاً في قدرته على إقناع الناس بصحتها.
وإلا فإن أعظم حصار لفكرة المخالف إنما تكون في بيان العلم بالحجة والبرهان، ولهذا كانت الغالبة في الكتاب والسنة؛ فكان المنهج الظاهر الأكثر: هو تعرية المنهج؛ دون اعتبار للأشخاص.
ثم إن خطر التغرير وإضفاء الشرعية كان موجوداً في عهد النبي صلى عليه وسلم في المنافقين الذي يسعون إلى تقويض الدولة المسلمة، وكانت لهم كثرة عددية، وامتدادات اجتماعية في أمة تعظم شأن القبيلة، ولهم علاقات منتظمة مع اليهود؛ لتحقيق أغراض الطرفين بإلقاء الشبه والإرجاف والتخذيل، ولا أدل على هذا التأثير والحضور من نزول سورة بكاملها جاءت لتبين طرائقهم وتعري مناهجهم؛ حتى سُميت بالفاضحة، ومع هذا كله ظلت الأسماء سراً، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يجري على المنافقين أحكام الإسلام الظاهرة.
نعم قد نُهي عن الاستغفار لهم، وعن الصلاة على من مات منهم، ولكن هذا المنهج العام في التعامل مع المنافقين لم ينسخ، ولم ينه عنه.
فإن قيل: كان البيان العام من الكتاب والسنة ببيان العلم ورد الشبهة والنقض على المخالف في عهده صلى الله عليه وسلم كافياً عن إسقاط الأشخاص، وهذا لا يتحقق في زماننا بسبب ضعف البيان العام!
فيقال: قد أقررنا بكفاية البيان العام عن التعرية، وأما تقصيرنا في البيان فلا يجوز أن نجمع إليه خطأ منهجياً آخر باتباع سياسات تخالف منهج الكتاب والسنة.
وإذا أردت أن تقرر أصلاً من الشريعة في التعامل مع أصحاب المناهج المنحرفة فإنها لم تأت بدليل قاطع بترك التعرية الشخصية مطلقاً، ولا باعتبارها مطلقاً، وحين ظن المختلفون وجود أحد الدليلين وقع الخلاف، والتحقيق في هذا أن القضية منوطة بمقتضى أحكام السياسة الشرعية، وقواعد المصالح والمفاسد، وهذه الأحكام ونلك القواعد تقتضي أن يكون الأصل هو ما ذكرناه، وما عداه استثناء قد يوجد سببه وقد لا يوجد.
وفهم هذا الأصل واعتباره يجعل خلاف الناس بعد ذلك إنما هو في تحقيق المناط لا في تخريجه؛أي: هل وجدت مصلحة تعريته أولا؛ فإذا سُلِّم هذا فالخلاف في تحقيقه مسألة يسيرة جداً؛ لأنها مبنية على تحقق المصلحة أو عدمها، وإمكان الوصول إلى هذا سهل قريب من خلال استجلاء العبر من التاريخ القديم والمعاصر وإجراء الدراسات الكاشفة.
أما إذا فُهم أنها دلالة نصية من الشريعة لا تختلف بها الأحوال ولا الأشخاص ولا الأمكنة ولا نتائج دراسة المصالح والمفاسد فهنا قد يصل المرء إلى تعطيل مقاصد الشريعة في العلاقة مع المخالف: من احتوائه أو تقليل شره، أو تحقيق مصالح أكبر من مفسدة ترك الكلام في شخصه؛ فيحتاج الباحث إلى أن يعيد النظر في تأصيل المسألة.
ولا يشكل على هذا عند البعض إلا شدة نكير السلف من التابعين ومن بعدهم على أهل البدع، وهجرهم إياهم والتحذير منهم، وهذا غير مشكل؛ فإذا قررنا هنا أن هذه المسألة مبناها على اعتبار المصالح والمفاسد التي تُبنى على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، وأن الهجر والتضييق والتسمية كانت نافعة في ذلك الوقت؛ لكثرة أهل السنة وقوتهم، وضعف أهل البدع؛ فليس لأحد أن يدعي أن السلف جعلوا ذلك قاعدة لا تنخرم.
ومن مفاسد التعرية ـ التي لا تعتبر القواعد ـ:
-قطعُ الطريق على أهل المنهج الحق لإصلاح المتبوع والتابع من أهل البدع، أو تقليل شرهما.
¥