تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قوله:" كلا لو تعلمون علم اليقين " جوابه محذوف دل عليه ما تقدم أي لما ألهاكم التكاثر، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم ليقين وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه وترتب أثره عليه فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شيء.

وقوله:" كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون "

قيل: تأكيد لحصول العلم كقوله:" كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون "

وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثاني في القبر هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما

ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:

1/ أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الإخلال بالفصاحة.

2/ توسط (ثم) بين العلمين وهي مؤذنة بتراخي مل بين المرتبتين زماناً وخطراً.

3/ أن هذا القول مطابق للواقع فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علماً هو فوق العلم الأول

4/ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر.

قال الترمذي: حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج بن المنهال بن عمر عن زر عن علي رضي الله عنه قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت (ألهاكم التكاثر)

قال الواحدي: يعني أن معنى قوله:" كلا سوف تعلمون " في القبر

5/ أن هذا مطابق لما بعده من قوله:" لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين " فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من جهتين:

إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين، وتقديم الأولى وتراخي الثانية عنها، ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد: بواو القسم، ولام التأكيد، والنون الثقيلة عن سؤال النعيم فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلال ووجهه أم لا

فإذا تخلص من هذا السؤال سئل آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا

فالأول: سؤال عن سبب استخراجه

والثاني: عن محل صرفه

كما في جامع الترمذي من حديث عطاء بن أبي رباح هن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وفي ماذا عمل فيما علم "

ومن تأمل حسن موقع (كلا) في هذا الموضع فإنها تضمنت ردعاً لهم وزجراً عن التكاثر ونفياً وإبطالاً لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به.

فتضمنت اللفظة نهياً ونفياً وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علماً بعد علم وأنهم لابد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية وأنه سبحانه لابد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها

وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين بل هم مستودعون في المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر فهاهنا ثلاثة أمور:

عبور السبيل في هذه الدنيا وغايته زيارة القبور، وبعدها النقل إلى دار القرار.

الفرق بين علم اليقين وعين اليقين:

كالفرق بين الخبر الصادق والعيان

وحق اليقين: فوق هذا

وقد مثلت المراتب الثلاث بمن أخبرك: أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه، فازددت يقيناً، ثم ذقت منه.

فالأول: علم اليقين

والثاني: عين اليقين

والثالث " حق اليقين

فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم اليقين

فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين

فإذا أدخل أهل الجنة، الجنة وأهل النار، النار فذلك حينئذ: حق اليقين.

قال تعالى:" ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "

قال محمد بن جرير الطبري: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا وماذا عملتم فيه؟ من أين وصلتم إليه؟ وفيما أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟.

وقال قتادة: إن الله سائل كل عبد هما استودعه من نعمه وحقه

والنعيم المسؤول عنه نوعان:

1/ نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره

2/ ونوع أخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه.

فإذا كان العبد مسؤولا ومحاسباً على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى:" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا "

فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب

وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد "

قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد.

والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها. (1)

والله اعلم

انتهى


(1) مدارج السالكين (2/ 403)، عدة الصابرين (196)، الفوائد (30)

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير