قوله صلى الله عليه وسلم " رصوا صفوفكم وحاذوا بين الأعناق":
الظاهر أن هذا على وجه الإيجاب إلا أن المراد بالمحاذاة المقاربة وقول أنس في الحديث السابق " فكان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه"، هذا على وجه المبالغة بالتراص ولا يراد به الحقيقة فقد جاء في رواية " وركبته بركبة صاحبه " وهذا لا يمكن أبداً، إذا لا يمكن للمرء أن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وقدمه بقدم صاحبه هذا لا يمكن أبداً ولذلك لم يفهم أحد من الأئمة السابقين أن المراد من هذا الحديث التراص الحقيقي والرجوع إلى فهم السلف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب فالمراد إذاً بالتراص هو التقارب فما يفعل بعض الناس من الصاق القدم بالقدم حقيقة هذا لا دليل عليه بل هذا فيه أذى للآخرين.
قوله " وقاربوا بينها":
أي بين الصفوف ففيه مشروعية المقاربة بين الصفوف وكراهية تباعدها ومقدار ما يكون بين الصفين هو مقدار ما يمكن الصف الثاني أن يسجدوا فيه.
405 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ r { خَيْرُ صُفُوفِ اَلرِّجَالِ أَوَّلُهَا, وَشَرُّهَا آخِرُهَا, وَخَيْرُ صُفُوفِ اَلنِّسَاءِ آخِرُهَا, وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا} رَوَاهُ مُسْلِم ٌ ().
(الشرح):
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها "
رواه الإمام مسلم قال رحمه الله حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا جرير قال أخبرنا سهيل مولى أبن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
ورواه أبو داود النسائي والترمذي والبغوي بشرح السنة كلهم من طريق سهيل به.
ورواه ابن جارود في المنتقى من طريق يحي عن ابن عجلان قال قال أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به.
فالحديث دليل على فضيلة الصف الأول للرجال، وقد جاء في الصحيحين من طريق مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يحدوا إلا أن يستهموا لاستهموا ".
هذا دليل أيضاً على فضيلة الصف الأول في حق الرجال وقد استغفر النبي صلى الله عليه وسلم للصف الأول ثلاثاً، وقال صلى الله عليه وسلم " تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم فلا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله " رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي نظرة عن أبي سعيد الخدري به.
وعند أبي داود والنسائي من حديث البراء مرفوعاً " أن الله وملائكته يصلون على أوائل الصفوف ".
والأحاديث في فضل الصف الأول متواترة فينبغي للمسلم أن يبادر إلى الصلاة ليتمكن من الصف الأول والقرب من الإمام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى " والحكمة في ذلك ليأخذوا عنه صلاته ويخلفوه إذا نابه شيء.
قوله " وشرها آخرها":
أي شر صفوف الرجال آخرها فاللعب يكثر بينهم والشيطان يطمع فيهم والغالب أن المتأخرين من أهل الكسل وأهل التهاون في أداء الصلاة فمن ثم صارت صفوفهم شر صفوف الرجال وأما النساء فخير صفوفهن آخرها، والحديث عام سواء كانت النساء تصلي مع الرجال أو كانت منفردة.
وقد اختلف العلماء بهذه المسألة فذهب الإمام الصنعاني وجماعة من الفقهاء إلى أن النساء إذا صلين منفردات وإمامتهن منهم فخير صفوفهن الأولى كالرجال وأن المراد بحديث الباب إذا صلين مع الرجال والحكمة في ذلك أن المرأة إذا كانت في الصف الأول مع الرجال يخشى أن تفتتن بالرجال لأن الصحابة والتابعين وأئمة الهدى لم يكونوا يجعلون حائلاً بين الرجال والنساء، وهذا الحائل لا أصل له وفيه مفاسد كثيرة.
وذهب بعض العلماء إلى الأخذ بعموم الخبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق ولم يخصص وإطلاق ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم أمر متعين فلو أراد النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصاً لقال " وخير صفوف النساء آخرها ما لم يصلين منفردات " ولكن هذا لم يقع بل جعل الخيرية للصفوف المتأخرة ولأن المرأة إذا بادرت إلى الصف الأول قد يدل هذا إلى عدم مبالاتها وعدم حيائها بالقرب من الرجال وإن صلين منفردات بعدم مبالاتها بالتقدم.
¥