وظن بقائه، يصلح حجة لحفظ حقوقه وأمواله التي كانت قائمة وقت غيابه وفقده، لا لاكتسابه حقوقاً مبتدأة جديدة لم تكن –أي الإبقاء ما كان على ما كان –وهذا معنى قول الإمام السرخسي، ومتأخري الحنفية، من أن الاستصحاب ليس حجة مطلقة، بل هو حجة للدفع لا للاستحقاق والإثبات، أي لدفع دعاوى الخصم التي يدعي فيها حقوقاً على المفقود، صوناً لحقوقه، لا لإكساب المفقود حقوقاً جديدة لم تكن، لأن هذا تغيير للحال، والاستصحاب ليس حجة قاطعة ومطلقة، تصلح للتغيير، ولإثبات أمر لم يكن، بل يقوم –كما علمت –على "ظن البقاء" وفي هذا المعنى يقول الإمام السرخسي: "وقد بينا في مسألة "المفقود" أن الحياة المعلومة باستصحاب الحال، يكون في إبقاء ملكه في ماله على ما كان، ولا يكون حجة في إثبات الملك له ابتداء في مال قريبه إذا مات (43) " أي لا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن.
وعلى هذا، فالمفقود لا يرث، ولا يُورث في رأي الإمام السرخسي ومن وافقه.
والحق، أن هذا النوع من الاستصحاب، يطلق عليه الأصوليون، استصحاب "الوصف" فالحياة بالنسبة إلى المفقود "وصف" وقد كانت ثابتة به يقيناً عند غيابه، فتستمر ثابتة له، ظناً، حتى يقوم الدليل على موته، لأن الحياة هي الأصل.
وكذلك وصف الماء بالطهارة مثلاً، فإن هذا الوصف للماء، هو الأصل، فيستمر حتى يقوم الدليل الحسي، أو الأمارة المادية على نجاسته، من تغيُّر لونه، أو طعمه، أو ريحه، حتى إذا قام هذا الدليل الطارئ المغيِّر، انتقض الأصل به، أي انتقض وصف الطهارة بالدليل الحسي المغيِّر، وثبت له وصف استثنائي آخر بالدليل المؤثر الجديد، فكان خلاف الأصل.
وإذا توضأ شخص مثلاً، فقد اتصف بصفة الطهارة الطارئة يقيناً، فيستمر هذا الوصف ثابتاً له، حتى يقوم الدليل على نقيضه، فلو تردد أو شك، فالأصل الطهارة، ويُستصحب هذا "الوصف" حتى يقع في الظن –لا الشك –تغيره، وانتقاضه، إذ الشك –كما علمت –لا يقوى على نقض اليقين، أو الظن الغالب، إذ لا يُنقض الأقوى بالأضعف، بداهة.
وعلى هذا، فالصفة، سواء أكانت أصلية –كصفة الحياة بالنسبة إلى المفقود، أو طارئة –كصفة "الطهارة" بالنسبة إلى المتوضئ –فإنها تُستصحبُ وتستمر، وحكمها لازم مرافق لها في هذا الاستمرار، وتترتب عليه آثاره –على الخلاف الذي أشرنا بالنسبة إلى المفقود –حتى يثبت نقيضُه.
فتلخص، أن الأصل في حياة المفقود، هو "ظن البقاء" بمعنى، ظن استمرارها له استصحاباً، لا يقين في الحياة أو يقين استمرارها، والظن _في هذا المقام –يصلح –عند متأخري الحنفية –حجة في دفع الدعاوى عنه، لحفظ حقوقه، ما دام لم يستبن أمره على وجه القطع واليقين، ولا يصلح –عندهم –حجة لإثبات حقوق جديدة لم تكن ثابتة له من قبل، أي عند غيابه وفقده، على ما بينا من رأي الإمام السرخسي على وجه الخصوص وهو رأي متأخري الحنفية، لذا استقر في أصولهم، أن "الاستصحاب حجة في الدفع، لا في الإثبات" أي لإبقاء ما كان على ما كان، خلافاً للشافعية الذين يذهبون إلى أنه "حجة مطلقة" في الدفع والإثبات معاً، على ما سيأتي بحثه، ومناقشته في مقام "حجية الاستصحاب".
10 - المالكية، ووجهة نظرهم في استصحاب "الوصف" من حيث تطبيقه على بعض المسائل، يخالفون جمهور الفقهاء في اجتهادهم في هذا التطبيق، نعرضه فيما يلي، توضيحاً لهذا النوع من الاستصحاب، وبيان رأي ابن حزم (45) في ذلك، ثم نعقِّب على كل أولئك بالمناقشة، والتقويم، لبيان ما هو الأرجح بقوة الدليل.
أشرت آنفاً، إلى أن الخلاف في التطبيق، لا في أصل القاعدة، وهو ما يطلق عليه الأصوليون، اصطلاح "تحقيق المناط" ومع أن المالكية مع متأخري الحنفية في أن الاستصحاب حجة في الدفع فقط، غير أنهم اختلفوا في التطبيق على كثير من المسائل المعروضة.
هذا، ومن تلك المسائل التي اختلفوا في حكمها، نتيجةً لاجتهادهم في تطبيق قواعد الاستصحاب، مع إقرارهم مبدئياً، بحجية تلك القواعد، ما يلي:
أولاً-المتوضئ يقيناً، تثبت له صفة الطهارة، على وجه العلم واليقين –كما قدمنا –وتستمرُّ له صفة الطهارة هذه في الزمن الآتي، حتى إذا اعتراه شك أو تردد في أنه أحدث، هل يؤثر هذا الشك الطارئ على اليقين السابق، فينقضه؟ وعلى هذا، فلا تجوز صلاته مع هذا الشك، أو أنها تجوز، إذ الشك، لا يقوى على نقض اليقين السابق المستصحَب.
¥