إذا شَكَّ من طلق زوجته، في عدد الطلقات، فلم يَدْرِ أطلَّقها ثلاثاً –وهو طلاق يرفع أصل الحل، أو طلَّقها واحدة –فلا يرتفع أصل الحل (46)، إذ يجوز له أن يراجعها في العدة، أو يعقد عليها عقداً جديداً –فالجمهور يرى، أن الطلاق –في حالة الشك هذه –يقع واحدة فقط، وقال مالك: يقع ثلاثاً.
وتعليل هذا الحكم عند الإمام مالك، جار على مسلكه في "الاحتياط" أي الأخذ بالحيطة والحذر، في معالجة مثل هذه المسائل، وذلك على أساس تعارض أصلين، يتجاذبان بحكميهما هذه المسألة، فلا بد من ترجيح أحدهما الذي هو أحوط.
أما الأصل الأول: فهو حلُّ الزوجية الثابت بيقين، قبل إيقاع الطلاق، فيستصحب هذا الأصل، ويستمر حكمه، حتى يرد الدَّليل الطارئ المغيِّر، أو الرافع لأصل الحل، وهذا ثابت بيقين –كما ذكرنا –فلا يزول هذا الأصل اليقيني بالشك في عدد الطلقات، فيقع واحدة، وهو رأي الجمهور.
وأما الأصل الثاني، فمؤداه: أن الطلاق إذا وقع، ثبت بيقين، غير أنه قد اعترى الشكُّ ثبوتَ الرجعة، والرجعة لا تثبت بالشك، فيقع الطلاق الثلاث، حيث لا رجعة، وهو رأي الإمام مالك، أخذاً بالاحتياط (47).
هذا، والأرجح –في نظرنا –رأي الجمهور.
وتفسير ذلك: أن الاحتياط" لا يكون في إيقاع الثلاث، بناء على أن "الرجعة" لا تثبت بالشك، لأن ثبوت الرجعة ليس مستمداً من الطلاق، بل هي مستمدة من عقد الزواج نفسه، وهو ثابت بيقين، وإنما الشك في رفعه، ودليل ذلك، أن "الرجعة" إنما هي "استدامة العقد" والعقد قائم يقيناً، ولا يزول اليقين بالشك، فكان الاحتياط –كما ترى –في عدم إيقاع الثلاث المشكوك فيه، إبقاء للعقد الثابت بيقين، ومنه تستمد الرجعة، ولا يُرَفعُ اليقينُ إلا بيقينٍ مثله، والطلاق الثلاث المشكوك في عدده، ليس أمراً يقينياً بالبداهة، وعليه، فلا يقع، ولا تأثير له على يقين أصل الحل الثابت.
هذا، وينكر ابن حزم اجتهاد المالكية في هذه المسألة، ويبطله، حيث يقول في كتابه، الإحكام: "وقال المالكيون .. إن أيقن أنه طلقها، ثم شك، أواحدة أو اثنتين، أو ثلاثاً، فهي طالق ثلاثاً ... " (48). ويبطل ابن حزم اجتهاد المالكية هذا بقوله: "فإن قالوا: إنَّ ههنا، هو على يقين من الطلاق، فقلنا نعم، وعلى شك من الزيادة على طلاقها واحدة والشك باطل" (49).
11 - تقدير موقف الأصوليين من اعتبار أنواع أخرى من الاستصحاب، وتحليلها ومناقشتها في ضوء علم الأصول وفلسفته.
ذكرنا آنفاً، أن ثمة أنواعاً أخرى من "الاستصحاب" اعتبرها بعض الأصوليين من صلبه، وضربوا لها الأمثلة التطبيقية، واستمدوا –من خلال الاستدلال بها –أحكاماً لمسائل بحثوها في مصنفاتهم "على ضوء من مفهوم تلك الأنواع، نتناولها بالبحث والتحليل، والمناقشة، لتقديرها، ووزنها في ضوء فلسفة علم الأصول.
-النوع الأول: العدم الأصلي، أو براءة العدم الأصلية.
وتفسير هذا، أن "الأصل براءة الذمة من التكاليف والواجبات –كما بينا آنفاً –حتى يرد من الشارع دليل يشغلها، ذلك، لأن الذمة خلقت بريئة من التكليف، حتى يرد الدليل الشرعي المثبت لشغلها بهذا التكليف، وهو الدليل المغيِّر للعدم الأصلي أو الناقل للذمة من براءة العدم الأصلية، وهذا معنى قولهم: الأصل العدم (50)، أو الأصل البراءة، أي انتفاء الأحكام التكليفية التي هي منشأ الالتزامات والحقوق، انتفاؤها قبل ورود الشرع.
والحق، أن هذا حكم عقلي محض يحكم بالبراءة من التكاليف، قبل ورود الشرع، ويستمر هذا الحكم السلبي أو العدمي، في الآتي من الزمن، حتى يثبت من جهة الشرع، ما يغيره.
وعلى هذا، فلا يعتبر "العدم الأصلي" أو "البراءة الأصلية" نوعاً من الاستصحاب –على التحقيق –لأن دليل الحكم بالعدم أو البراءة، هو "العقل المحض" ودليل استمرار هذا الانتفاء، ثابت بالعقل أيضاً لا بالاستصحاب، لسبب بسيط، هو أن "العقل إذا حكم بالانتفاء أو العدم ابتداء، حكم بالاستمرار والبقاء، حاضراً ومستقبلاً، لأنه قائم في كليهما، والحكم لا يتخلف عن دليله، ابتداء وبقاء، حتى يرد الدليل الطارئ المغيِّر الذي يقطع استمرار هذا النفي، أو البراءة، أو العدم، وهذا ليس من "الاستصحاب" بداهة، لأن "الاستصحاب" –كما علمت –إنما يتحقق مناطه، ليصح الاستدلال به، حيث لا دليل مستقلاً يقضي بالاستمرار، وما نحن فيه، دليله قائم، ومستقل منذ البداية، وهو قائم أيضاً في
¥