وكذلك مثل قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً، بعد إذ هداهم، حتى يبيِّن لهم ما يتقون (58) ووجه الاستدلال –في ضوء سبب النزول –أن ما كان من النبي (بل وما كان من المسلمين عامة، من استغفارهم للمشركين، قبل نزول تحريمه بالنص القرآني، فهو على "البراءة الأصلية" ليس فيه مأثم، ولا حرج، "حتى يبين لهم ما يتقون" بخلاف ما بعد نزول التحريم، وهذا بيِّنٌ.
13 - الأصوليون (59) في مصنفاتهم، أن البراءة الأصلية، أو العدم الأصلي، حكم عقل محض، وهو سابق على ورود الشرع به.
ترى هذا واضحاً في قول الإمام الغزالي –على سبيل المثال –في كتابه المستصفى:
"دليل العقل، والاستصحاب ... اعلم أن الأحكام السمعية، لا تُدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة" (60) ويقول أيضاً: "وانتفاء الأحكام، معلوم بدليل العقل، قبل ورود السمع (61) " أي قبل أحكام الشرع بهذه البراءة، أو العدم.
غير أن الإمام الغزالي، إذ يشير إلى دليل العقل، والاستصحاب، فإنما يشير إلى ذلك، بالعطف الذي يقتضي المغايرة بينهما، فهما إذن أمران متغايران، فلا يسوغ بعد ذلك أن يجعلهما أمراً واحداً، بقوله: "ونحن على استصحاب ذلك –أي حكم العقل – (62) إلى أن يرد السمع" أي حتى يرد دليل من الشرع بالتغيير، فإذا ورد لم يبق للعقل دلالة.
وبيان ذلك: أنَّ حكم العقل لا يستصحب، لأنَّا بينَّا، أن حكم العقل الذي أثبت حكم العدم الأصلي ابتداءً، هو نفسه الذي حكم باستمراره في الزمن الآتي انتهاءً، لأن العقل كان قائماً قبل الشرع، وبعد وروده، ولا يزال قائماً في الحاضر، وفي الزمن الآتي، ولا يتخلف الحكم عن دليله، كما ذكرنا، وإذا استمر قيام العقل استمر الحكم الثابت به بداهة، فلا حاجة إذن إلى الاستصحاب، لأن الاستصحاب إنما يلجأ إليه في الاستدلال، حيث لا دليل مستقلاً يدل على استمرار الحكم، وهذا دليله قائم، كما رأيت، وفرق بين أن يكون الاستمرار ثابتاً بدليل قائم مستقل، وبين أن يكون استمراره ثابتاً، أثراً لازماً لعين دليل وجود الحكم، فالدلالة في الثاني لزومية، وهذا هو الاستصحاب، وفي الأول عقلية أصلية، وليست ثابتة لزوماً، فافترقا! فحكم العقل في الاستمرار، كحكم النص في الاستمرار أو التأبيد، كلاهما ليس استصحاباً، كما قدمنا.
هذا، والإمام ابن قدامة، يصرِّح بأن: "العدم الأصلي" حكم عقلي، قبل ورود الشرع، إذ يقول: "استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد دليل ناقل عنه (63) لأن العقل يدلُّ على براءة الذمة" (64) ".
وما قيل في وصف الغزالي لحكم استمرار دليل العقل بأنه "استصحاب" يُقال في وصف ابن قدامة بذلك، فكلاهما لم يُصب في هذا "التكييف" للفارق الحاسم بينهما، كما بينا.
14 - الأمثلة التطبيقية لاستمرار العدم الأصلي، أو البراءة الأصلية، بحكم العقل:
قلنا: إن مفاد هذا الأصل من البراءة، أن الحكم بعدم إيجاب فعل، قبل أمر الشارع به، أو بنفي الحكم الشرعي التكليفي بوجه عام، قبل ورود دليله من الشارع، فإن "العقل" يدل على انتفائه إلى أن يرد دليل عن الشارع يترتب عليه وجوده أو ثبوته.
ويضرب الإمام الغزالي الأمثال التوضيحية لهذا الأصل، حيث يقول: " ... إذا أوجب –الشارع –صوم شهر رمضان، بقي صوم شوال على "النفي الأصلي" –أي بقي منفيَّاً وجوبه بالعقل –وإذا أوجب على القادر، بقي العاجز على ما كان عليه (65) " لعدم الدليل على التكليف في حقه، ويحكم العقل بذلك قبل الشرع!!.
وهذا معناه، أن نفي الوجوب عن العاجز، ثابت بالعدم الأصلي عقلاً، لا بالدليل الذي أوجب على القادر شرعاً.
ويُستخلص من هذا، أن "العقل وحده" يستقلُّ بالحكم بانتفاء التكليف، وباستمرار هذا الحكم السلبي، لهذه الحال أيضاً، لأن كلاًّ من الحكم بالانتفاء ابتداءً، واستمرار هذا الانتفاء مرجعه "العقل" دليلاً عليهما، والعقل قائم، فلا محل للاستصحاب أصلاً -كما قدمنا –وهذا الحكم العقلي بعدم التكليف حجَّة، واتباعه واجب، بل هو الأصل، ولا خلاف فيه، وقد أيَّده الشرع ومن ادعى خلاف هذا الأصل، فعليه بالدليل المغيِّر، غير أن هذا الحكم العقلي بالعدم الأصلي، واستمراره، ليس نوعاً من الاستصحاب الذي نحن بصدد البحث فيه، على التحقيق لما قدمنا.
15 - هل الحكم الثابت بالإجماع، أو القياس، محلٌ للاستصحاب؟
¥