هذا، ولا يقال إن الإجماع مجرد أمارة على وجود الدليل أو المستند، فلا يلزم من ارتفاع، الإجماع، ارتفاعُ دليله، أو مستنده، لأنا نقول، إن الإجماع إذا ما انعقد، كان هو الدليل، ولا يبحث عن مستنده، لأنه يقوم مقامه، إلا إذا تبين أن أساسه مصلحة زمنية متغيِّرة، فيتغيَّر الإجماع، بتغيُّر أساسه، أو مستنده الذي قام عليه، إذ لكل مصلحة حكمها الذي تقتضيه، ولكن ما نحن فيه، أمر تعبديٌّ خالص، وهو "الصلاة" وليس مصلحة دنيوية متغيرة، فلا صحة لقول من يدعي، أن الإجماع أمارة على المستند، حتى إذا ارتفع الإجماع، بقي المستند، أقول: لا يصح هذا القول، من قِبَلِ أنّ عصمة الأمة، منوطةٌ بإجماعها، وأنها لا تجتمع على ضلاله، فالحجية منوطة بذات الإجماع، لا بمسنده، كما ترى.
على أن "المستند" أو الدليل الذي ينهض عليه الإجماع، منوط حُكمُهُ بالأوصاف، أو العلل، أو الأسباب المؤثرة في اقتضاء الأحكام، فحيثما وجد الوصف، أو العلة، أو السبب، وجد الحكم، سواء انعقد عليه إجماع، أم لم ينعقد، حتى إذا انعقد، كان الإجماع لذاته هو الحجة، وليس هو مجرد أمارة، كما يُدَّعى!!
وعلى هذا، يترجح لدينا، أن الإجماع على حال، يرتفع إذا تغيرت هذه الحال، على النحو الذي بينَّا، فلا يكون الإجماع على محل فيه خلاف، محلاًّ للاستصحاب (69).
16 - الحكم الثابت عن طريق القياس، في الفرع المقيس، ليس محلاًّ للاستصحاب في ذاته، لأن الفرع تبع الأصل، فإذا كان أصله محلاًّ للاستصحاب، كان الفرع محلاًّ له تبعاً لذلك، وإلا فلا.
وعلى هذا، فإن كان حكم الأصل باقياً مستمراً بالاستصحاب، وغير منسوخ، أخذ الفرع حكمه، والعكس صحيح.
يرشدك إلى هذا، أن حكم الأصل إذا لم يكن باقياً ومستمراً العمل به، بأن كان منسوخاً، لم يكن محلاًّ للاستصحاب، فكذلك حكم الفرع المقيس، لأنه يستمد حكم استمراره، أو انقطاعه، من حكم أصله.
على أنه إذا كان حكم الأصل منسوخاً، لم يكن محلاًّ للقياس أصلاً، فضلاً عن عدم جواز استصحابه، فلا يتعدى حكمه إلى الفرع بداهة، فالفرع ينتفي بانتفاء أصله. هذا، ومعلوم، أن شرط "صحة القياس" بالنسبة إلى حكم الأصل، ألاَّ يكون منسوخاً، لأن النسخ بيان لانتهاء أمد العمل بالحكم، حتى إذا انتهى أمد العمل بالحكم الأصلي، وألغي، كان هذا الإلغاء واجباً بالنسبة إلى الفرع من باب أولى.
هذا، وبالله التوفيق!
الدكتور محمد فتحي الدريني
عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق
...
الحواشي:
(1) -إرشاد الفحول –ص 237 –للشوكاني –كشف الأسرار حـ3 –ص 1097 يقول شارح أصول البزدوي: "ان استصحاب حكم ثبت بدليل مطلق، غير معترض للزوال والبقاء، ليس بحجة قبل الاجتهاد في طلب الدليل المزيل"
-المرجع السابق.
(2) -وإنما يحصل الظن بعدم الدليل، بعد البحث والنظر، ولم يظفر به، لأنه لو وجد، لنقل إلينا عادة، آحاداً أو تواتراً، وإلا لزم القول بضياع شيء من الشريعة، وهذا باطل."
(3) -راجع في بحث الاستصحاب –الاحكام في أصول الأحكام –الآمدي –حـ4 –ص 160 –170 –والأحكام في أصول الأحكام –حـ 5 –ص5 –لابن حزم الأندلسي –إرشاد الفحول ص 237 –للشوكاني –التلويح والتوضيح –حـ3 ص 36 –لصدر الشريعة –كشف الأسرار حـ3 –ص1097 وما يليها –عبد العزيز البخاري.
(4) -المراجع السابقة.
(5) -المستصفى للغزالي –حـ1 ص217.
6 - كشف الأسرار –حـ –ص1101 –للبخاري على أصول البزدوي.
(7) -قد وقع في هذا الخلط صاحب كشف أسرار، إذ يعتبر استمرار حكم بقاء الزوجية من الاستصحاب، في حين أن الزوجية قائمة أصلاً على السبب، وهو العقد، فيكون البقاء مقتضى للسبب لا للاستصحاب، حيث يقول: "إذا تيقن بالنكاح، ثم شك في الطلاق، لا يزول النكاح بما حدث من الشك، وهذا كله استصحاب" حـ3 –ص 1099.
(8) -المراجع السابقة –وراجع بوجه خاص، كشف الأسرار على أصول البزدوي –ح3 –ص1101 وما يليها.
(9) -التوضيح على التلويح –حـ2 –ص36 –لصدر الشريعة –تسهيل الوصول إلى علم الأصول –ص237 –عبد الرحمن المحلاوي.
(10) -التقرير والتحبير شرح التحرير –حـ3 –ص290 –لابن أمير الحاج –ط –دار الكتب العلمية –بيروت.
(11) -المصباح المنير –حـ1 –ص394.
(12) -كشف الأسرار –حـ3 –ص1097.
(13) -إرشاد الفحول –ص237 –للشوكاني.
¥