تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

من المقرر إجماعاً، أن الحقوق والحريات "منشؤها الحكم الشرعي" الذي يتجهُ الخطابُ فيه إلى المكلف، وقد عرَّف الأصوليون "الحكم الشرعي" بأنه: "خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلفين" ومن المعلوم بالضرورة، أن الفعل الذي يتعلق به الحكم، إيجاباً أو سلباً، هو ظاهرة إرادية في المقام الأول، بلا مراء، إذ التكليف يستلزم الإرادة للتنفيذ فعلاً، فلا تنفيذ ولا امتثال بلا إرادة حرة مختارة واعية قاصدة، ليتم الابتلاء والجزاءُ عَدْلاً، وإلا كانت الإرادة مُفرغَةً من محتواها، وهذا الفعل الإرادي الذي نُفِّذ امتثالاً وطواعية، مُغيَّاً بغاية مرسومة ومحددة شرعاً هو مكلف بالاتجاه إليها إبَّان تصرفه، وتحقيقها واقعاً، إذ الحكم وحكمة تشريعه، أو غايته التي شرع من أجلها، مقترنان، نظراً وعملاً، بل "الحكمة" هي أساس تشريع الحكم، وقوام معقوليته، وإلا كان الحكم الذي يقتضي الفعل أو الكفَّ بلا غاية ولا حكمة، وهذا لا يُتصور في تشريع الله ورسوله، لأن هذا يستلزم العبث، والعبث لا يُشرع، لمنافاة ذلك للحكمة الإلهية، فوجب أن يكون لكُلِّ حكم حكمةٌ أو غايةٌ هي مقصود الشرع من أصل تشريعه، فكانت روحه وملاكَ أمره، ومعنى معناه، ومن ثمَّ لا يجوز بَتْرُ الحكم عن حكمته، انحرافاً عنها، أو تنكباً لها، أو اعتسافاً (2)، بل هو محرم قطعاً، لمناقضة قصد المشرع في تشريعه، تجد هذا بيِّناً صريحاً فيما قرره المحققون من الأصوليين، من أن قصد المكلف في العمل ينبغي أن يكون موافقاً لقصد الله في التشريع، حكماً ومقصداً معاً، من مِثل الإمام الشاطبي حيث يقول: "قصد الشارع من المكلَّف، أن يكون قصدهُ في العمل، موافقاً لقصد الله في التشريع (3) " ويُجلِّي هذا المعنى ويؤصِّله في موضع آخر من كتابه الموافقات في أصول الشريعة بقوله: "من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، ومن ناقض الشريعة، فعمله في المناقضة باطل، فما يؤدي إليها باطل (4) ".

وبيَّن أن المناقضة في "الغاية" هي علة الحكم بالبطلان، فكان ذلك دليلاً ساطعاً على أن التشريع يتخذ من المنهج الغائيِّ بحثاً في موضوعه.

يوضح هذا، ويؤكده أيضاً، أن الحكم ببطلان التصرف، للمناقضة، مؤيِّد عملي لتوجيه الإرادة إلى عدم التسبب فيها، عن طريق النشاط الحيوي في ممارسة الحقوق، أو الحريات، بل هو تقويم مؤيَّد بالجزاء التشريعي الذي يعامل المتصرف فيها بنقيض مقصوده، وما استهدفه من غاية غير مشروعة، إذ اعتُبر التصرف معدوماً حكماً، لا يترتب عليه أثر، وإن وجد حساً، لأن الظواهر الإرادية إذا لم تكن جارية على "سَنَن المشروعات" ووضعها الصحيح، ظاهراً وباطناً، شكلاً ومعنى، إرادة ومقصداً، لا تعتبر، ومن هنا ربط التشريع الإسلامي صحة التصرف، في جميع وجوه النشاط الإنساني، "بالعناصر الذاتية" للإنسان المكلف، من القصود والبواعث النفسية التي ترمي إلى تحقيق أغراض فعلية في المجتمع، إن في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أو الخلقي أو الديني، إذ الحكم الذي يتعلق بتصرف ما، لم يشرع لذاته، بل لمعناه، أو للغاية التي يستهدف تحقيقها، وإنما الحكم وما تعلق به من تصرف هو مجرد وسيلة فحسب، تستمد هذه الوسيلة "قيمتها التشريعية" واعتبارها، ومشروعيتها، من تلك الغاية التي شرعت من أجلها، جلباً لمصلحة معتبرة، أو درءاً لمفسدة راجحة، إذ الوسيلة تأخذ حكم غايتها، وتسقط بسقوطها (5).

-هذا المؤيِّد العملي القضائي، وبسلطان الدولة، إنما شرع لحماية "ذاتية التشريع" ونظامه العام الذي يستشرف غايات ومقاصد أساسية شرعت من أجل تحقيقها، وهو مؤيِّد أيضاً لمنع التسبب في المناقضة إبان الكسب والانتفاع، بمقتضى الحقوق أو الحريات الممنوحة للمكلفين، لما أن هذه "المناقضة" تأتي على مقاصد التشريع هدماً وإبطالاً، إذ القصد غير الشرعي، هادماً للقصد الشرعي بداهة.

التشريع بما هو مرتبط أساساً بالظواهر الإرادية، على ما هو مقرر في مفهوم الحكم الشرعي أصولياً، وبما تتجه إليه الإرادة من غايات ومقاصد، بحكم البواعث النفسية الذاتية المتغايرة، توجب طبيعته أن يتخذ منهج الغاية أساساً في الاجتهاد التشريعي والفقهي، وهو يباين المنهج المادي المحسوس، منهج التقرير للواقع، طبيعة ودوراً وهدفاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير