تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يوضح الإمام الشاطبي، أن البُنية الذاتية للتشريع الإسلامي، وخصائصه، ومقاصده الأساسية، كل أولئك محكوم بقانون الغاية، لا بمنهج التقرير، يوضح ذلك بأجلى عبارة حيث يقول: "فالأحكام لم تشرع لأنفسها، بل شرعت لمعانٍ أُخَرَ، هي المصالح (6) " أي الغايات.

لذا، كانت "الغاية" بما هي هدف للحكم، وأساس في تشريعه، بل مناط "العدل" فيه، كانت هي المهيمنة على النص، المحددة لمعناه ولمجال تطبيقه أيضاً، ضيقاً وسعة، تبعاً لتحقيق هذه "الحكمة" في مظانِّ وجودها، تنفيذاً لمراد الشارع الذي تعلق بها، في أدق وأوسع مدى، فكان لزاماً على ذي الحق، أن تتجه إرادته شطرها، إبان تصرفه في حقه، تحقيقاً لها، لكونها "مناط العدل" حتى إذا تخلفت الغاية بالانحراف عنها، أو اعتسافها، كان البطلان! كما ذكرنا.

هذا، والحكم بالبطلان –كما قدمنا- هو جزاء تخلف الغاية، أو سقوط العدل في التصرف، وليس بعد العدل إلا الظلم، أو المفسدة أو العبث، وكل أولئك على النقيض من مقاصد التشريع وغاياته بالبداهة، يقول الإمام ابن تيمية في هذا الصدد: "كل ما خرج من العدل إلى الجور، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة" وفي هذا المعنى يقول الإمام القرافي أيضاً: "إن كل سبب شرعه الله لحكمة، لا يشرعه عند عدم تلك الحكمة (7) " ويؤكد هذا المعنى بعبارة أخرى بقوله: "كل سبب لا يحصِّل مقصوده، لا يشرع (8) " والمقصود هو غاية السبب، والسبب هو الفعل الناشئ عن حق أو إباحة (9)، فتأكد هذا المعنى أصلاً عامّاً في التشريع مؤداه: "أن ما يصير إلى النقيض من مقاصد التشريع وغاياته، باطل" فتجب الحيلولة دون وقوعه، وقاية، ودفعاً له بقدر الإمكان، حتى إذا وقع، وكان تصرفاً قولياً، كالعقود، بطل، وانعدم، لسقوط مشروعيته بسقوط غايته، والمقصود منه، والباطل معدوم اعتباراً لا يترتب عليه أثر، وإن كان تصرفاً فعلياً، وجب رفعه وإزالته، وقطع التسبب في استمراره (10).

المصلحة الجدِّية الحقيقية المعقولة التي شرعت غايةً مقصودة للشارع من تشريع الحق، هي مناط العدل.

ترى هذا المعنى بيِّناً مستقراً في مصادر علم الأصول، إذ يقرره المحققون من الأصوليين والفقهاء، أصلاً معنوياً عاماً تقوم عليه "المشروعية" وحيث تكون المشروعية، يكون "العدل" قطعاً، إذ لا مشروعية حيث ينتفي العدل، فنرى الإمام الشاطبي يعبِّر عن "الغاية" التي شرع الحكم وسيلة لتحقيقها، فكانت مقصودة في أصل تشريعه، يعبر عن هذه الغاية تارة بالمصلحة، أو الحكمة، أو "الباطن" أحياناً أخرى، وهي روح النص وملاك أمره، وعنصر معقوليته، بحيث إذا انتفت، غدا الحكم بلا أساس يسوِّغه، بل يذهب بمعقوليته.

ووجه إطلاق كلمة "الباطن (11) " على حكمة الحكم، أنها عنصر عقلي خارج عن منطوق النص، غالباً، وإن كان داخلاً في منطقه، فضلاً عن أن اتجاه الإرادة إبّان التصرف شطرها، أمر نفسي باطني، تجد هذا واضحاً إذ يؤصِّل هذا الأصل العام المعنوي في صراحة لا تقبل التأويل، ولا يلابسها غموض أو إبهام حيث يقول: "ولما ثبت أن الأحكام شرعت (12) لمصالح العباد، كانت الأعمال (13) معتبرة بذلك، لأن مقصود الشرع فيها، كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه، على أصل المشروعية، فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً، والمصلحة مخالفة، فالفعل غير صحيح، وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية غير مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي "المصالح" التي شرعت لأجلها، فالذي عمل في ذلك على غير هذا الوضع، فليس على وضع المشروعات (14) " وهو أصل مجمع عليه، وإنما الاختلاف في شروط تطبيقه.

وهنا يبدو دور التشريع جلياً في التقويم لا في مجرد التقرير، إذ يقيم التشريع الإسلامي للعناصر النفسية، من سمو الغاية، وشرف الباعث، وطهارة النية، وخلقية الإرادة، المقام الأول في الاعتبار، ولا يخفى ما لذلك من أثر في التمكين للمثل العليا، والمبادئ الخلقية، والقيم الإنسانية الخالدة، بما هي معايير هذا التشريع العظيم!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير