تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبيان ذلك، أن الدافع النفسي هو الذي يحرك الإرادة ويوجهها إلى ما يحدَّد لها من غاية ومقصد أو مصلحة، فيكون ذلك "الباعث" إذا ما صدر عنه الفعل واقعاً، هو معيار المشروعية وعدمها، تبعاً لمطابقته الغايةَ المرسومة، أو مجافاته إياها، وفي هذا دليل بيِّن على ما للعناصر النفسية الذاتية للمكلف إبان ممارسته للحقوق أو الحريات، من أثر على مشروعيتها، وقد ثبت هذا بقوله (: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" أي فقدت اعتبارها الشرعي، وأثرها، دنيا وأخرى، لهبوط المقصد عن التسامي إلى الهدف الأسمى من إعلاء كلمة الحق والعدل التي فيها خير الإنسانية جمعاء، وفي هذا قضاء مبرم على ظاهرة التحايل على مقاصد التشريع الموضوعية، وغاياته العليا، باتخاذ فعل مشروع في الأصل، ذريعة إلى تحقيق غرض غير مشروع، كما قضى على ظاهرة مجافاة المبادئ الخلقية، وضمن لها أصالتها وثباتها، بالتشريع الملزم فضلاً عن العقيدة، كما قضى على ظاهرة الغش نحو قواعد التشريع بتحليل محرم، أو إسقاط واجب، تحت ستار التصرف في الحق، أو تذرعاً بممارسة الإباحة أو الحرية العامة، أو عملاً بعرف سائد، أو تقاليد موروثة، لا تستند إلى "مصالح" يقرها الشرع، أو ورد بما يحرم موضوعها عيناً.

مدى أثر مبدأ الغائية على مشروعية العلاقات الدولية

على أن هذا الأصل يبدو أعظم أثراً، فيما يتعلق بالعلاقات الدولية التي تتخذ مظهر "المعاهدات" و "المواثيق" مما يؤكد القضاء على أسباب الاضطراب العالمي، فالباعث على إبرامها وما ينشد من مقصد يراد تحقيقه منها ينبغي أن يكون مشروعاً، والمشروعية إنما تعني وجوب إقامتها على أساس من الحق والعدل، وسيادة القيم الإنسانية، والمبادئ الخلقية الرفيعة التي من شأنها أن تحقق المصلحة الإنسانية العليا للبشر كافة، دون تمييز بلون أو لغة أو عنصر، أو اختلاف دين، ولهذا لم يجعل الإسلام اختلاف الدين عقبة في سبيل سياسته العامة في الإصلاح العالمي، لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبيَن الرُّشد من الغيّ (لأن توحيد الناس معتقداً أمر محال، لقوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكوننَّ من الجاهلين (.

وتأسيساً على هذا، أقام الإسلام سياسته على أساس "وحدة النوع الإنساني" لوحدة مصدره، ومن هنا اعتبر "الإنسان العام" في حد ذاته، وبمعناه الصحيح، وحيثما كان "قيمة كبرى" بل ومن أجلِّ القيم، فاستبعد –نتيجة لذلك- كل سياسة ترمي إلى القضاء على هذا الإنسان، وحقه في الحياة الحرة الكريمة، أو تحطيم بنيته المعنوية، بالاستذلال والقهر، والاستضعاف في الأرض، جرياً وراء تحقيق حلم عنصري خاص، أو تفرداً في التوسع وبسط النفوذ، استعماراً أو استيطاناً، أو طمعاً في مغانم مادية عاجلة على حساب الشعوب المقهورة في بلادها، أو نزوعاً إلى الاستعلاء والهيمنة الدولية، أو غير ذلك من "البواعث" غير الإنسانية، لأن النشاط السياسي- في الإسلام- يُحكم بالأصل العام الذي قررنا، وهو "قانون الغاية" –لا قانون الغابة-لأن "الغاية" هي مناط المشروعية وعدمها، حسبما تكون مطابقة لما رسم لها من مثل إنسانية، وقيم موضوعية، ومبادئ خلقية لتتسق مع الصالح الإنساني العام الذي هو "الغاية القصوى" من التشريع الإسلامي كله، وإن النشاط السياسي لكل دولة ينبغي ألا يتنافى ومقتضى هذا الأصل القطعي، أو ينحرف عنه، أنانية، وأثرة، أو عصبية، وعنصرية "لتكون أمَّة هي أربى من أمة" وهذه "المصلحة الإنسانية العليا- في نظر الإسلام- تمثل "العدل الدولي" في أقوى صوره، وهو ما تحلم في تحقيقه شعوب الأرض، ولا سيما في هذا القرن العشرين.

والأدلة التي تنهض بهذا الأصل العام تفوق الحصر، من مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا، إذا ضربتم في الأرض، فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام، لست مؤمناً، تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة (ولقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة، نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً (ولقوله عز وجل: (وقد خاب اليوم من استعلى (.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير