فإذا أقبل الطائفون إلى الحجر الأسود لتقبيله، وهو من الجنّة، قبّلوا فيه أرضّ موطنهم الأول: الجنّة، التي أخرج الشيطانُ (عدوُّهم الأول) أبويهم منها. وهنا تستعر لواعج الأشواق وتحترق خوالج العُشاق إلى الموطن الأول لهذه البشرية، وهي الجنّة، فتحنّ إليها أشد ما يكون حنين الغريب الطريد من وطنه إليه، إذا ما رأى ما يذكّره به. فحُقّ أن يُقال عند تقبيل الحجر: هُنا تسكب العبرات!! (1).
وهذا الحنين إلى الجنّة، الذي أذكاه تقبيل الحجر الأسود، سيكون دافعاً إلى أن يسعى هذا الغريبُ المطرودُ إلى أن يعود إلى وطنه، بسلوك الجادّة التي وضعها ربُّه إليه، ويحذر سُبُلَ الشيطان عدوّه الأول الذي كان سبب خروجه من الجنة.
وهكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
فإذا ذهب إلى المقام ليصلي خلفه سنة الطواف، ورأى مقام إبراهيم، وهو آيةٌ بيّنةٌ على التوحيد "فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم" لأنه بقيّةُ أبي الأنبياء وباني كعبة التوحيد على وجه الأرض.
كل بقعةٍ في هذا البلد الحرام لها مع التوحيد قصةٌ قديمة وتاريخٌ عريق، حتى ذلك الحجر المسمى بمقام إبراهيم.
إنه بلدُ التوحيد، ولن تجد بلداً أولى بهذا اللقب من مكّة المكرمة، ولن تجد لقباً أولى بها منه. وإلاّ فَأَوْجِدْ لي بلداً له بإمام الحنفاء إبراهيم -عليه السلام- وبإمام الأنبياء محمد –صلى الله عليه وسلم- أوثق صلة، كما لمكة!
إنه بلد التوحيد .. منه بدأ التوحيد، ومنه انتشر، وفيه آياته ورموزه.
وإذا قلنا: (التوحيد) فهو أوّل وأعظم عبادة، بل هو الذي لا عبادة إلا به. فلا رضى لربنا –عز وجل- إلا به، ولا نجاة من الخلود في النار إلا بتحقيقه.
وكان هذا (التوحيد) أحدّ عطاءات البلد الحرام ... وهكذا تكون عطاءاتُه!
أمّا ماء زمزم فهو خير ماء على وجه الأرض: طعامُ طُعْمٍ، وشفاءُ سُقم.
يُقبل عليه قاصدوه بعد أن أحرقت أجوافهم آهاتُ اللقاء، وسكبوا الدموع في تلك الساحات، فما نضب عطاؤه، ولا نقِص عن رِيٍّ ماؤه. يتضلّعون منه، فهو بركةُ التوكّل، وخفقةُ مَلَكٍ، له من البشر صلةٌ بإحدى أجلّ العبادات، وهي التوكّل، وله من طُهر السماء وبركتها خَفقةٌ من جناح أحد الملائكة. فكان الماءَ المباركَ الذي ما عرفت البشريّةُ أطهر ولا أعظم بركةً ولا أروى منه!!
هل تعرفون ماءً ما اعتاده أحدٌ إلا غصَّ بماءٍ سواه، والله إنه ماء زمزم! اسألوا أهل مكّة ممن اعتاد أن لا يشرب إلا ماء زمزم، هل طاب له ماءٌ سواه بعده، وكأنّ مريئًا أهْنَاه ماءُ زمزم لن يهنأ بغيره، ولو كان ماءً من النيل أو الفرات.
الماء رمز الطهارة .. وماء زمزم أطهر ماء الماء سَبَبُ الحاة .. وماء زمزم سببٌ لأطيب حياة: حياة إيمان وعافية الماء إنما يروي .. وماء زمزم لا ريَّ كرِيَّه، وهو طعام يُغني عن الطعام.
الماء قد يحمل الداء .. وماء زمزم شفاءٌ -بإذن الله- من كل داء الماء شُرْبُهُ عادة .. وماء زمزم شربه عبادة الماء نعمةٌ تستوجب الحمد ... وماء زمزم قُرْبَةٌ يُجيب لها ربُّنا دعاء العبد: "ماء زمزم لما شُرب له".
الماء لا علامة في شربه على الإيمان .. وماء زمزم علامةٌ للإيمان، وعدم التضلّع منه علامة على النفاق "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من ماء زمزم".
فإذا ما نَعِمَ المشتاقون بوصال البيت المعظَّم، وانطفأت نيرانُ أكبادهم بماء زمزم، وسرت في دمائهم حبّاتُ قطراته، مطهّرةً مجاري الشيطان في عروقهم ببركاته. تكاد ترى قلوبهم قد خالطتها بشاشةُ التوكّل وثقتُه وعزّه المؤمنين به؛ لأنه الاعتماد على خالق الأرض والسماء وربِّ كل شيءٍ ومليكِهِ. وتكاد ترى مسحةَ المَلَكِ في نضارة جلودهم وضياء وجوههم؛ لأنهم قد غسلوا أجوافهم بماءٍ من خفقةٍ بجناح مَلَكٍ كريم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
¥