أمّا عطاءاته لأهله وقاطنية، ومَنْ حَظُوا بنعمة المجاورة فيه، الذين ما عرفوا إلا لذّة الوصال، ولا أضناهم الحنين، ولا أقلقهم الشوق، فهم في نعيم القُرب متقلّبون، وفي أعماق العناق قائمون نائمون= فلا تسل عمّا أعطاهم البلد الحرام، ولكن سل: ما الذي بخل عليهم به البلدُ الحرام؟!!
"أولم نمكّن لهم حرماً ءامناً يُجبى إليه ثمراتُ كل شيء رزقاً من لدنّا" [القصص: 57].
"أولم يرو أنّا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطّف الناس من حولهم" [العنكبوت:67].
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" [إبراهيم:37].
فيا أهل مكّة: أنتم آمنون حين يخاف الناس، طاعمون حين يجوع الناس، أفئدة الناس إليكم مقبلة، ووجوههم إلى بلدكم آمّة. لكم حُرمة البلد الحرام، وما عرفنا البلاد إلا وأهلها يحمونها؛ إلا أنتم، فبلدكم يحميكم. وما عهدنا بلداً تأتيه ثمرات كل شيء من خارجه، مكفولةً أرزاقه؛ إلا بلدكم. ولا عَرَفَ التاريخُ بلداً يشتاق إليه غير أهله أكثر من اشتياقهم إلى بلدانهم وأوطانهم، إلا بلدكم.
يا أهل مكة: يفرُّ الناس عند الخوف إليكم، ولا تفرّون من بلدكم إلى غيره. أَمِنَ الطيرُ والوحشُ فيه، أمِنَ العُشْب والشجر .. حتى الشوك فيه آمن. أمن فيه كل شيء، فأمنت فيه القلوب، فَحُقّ له أن يُسمَّى بـ (البلد الأمين)، وأن يُقسم به ربُّنا عز وجل "وهذا البلد الأمين".
يا أهل مكّة: أفئدتكم في بلدكم قارّة، لا تشتاق إلى غيره. وقلوب غيركم إلى بلدكم فارّة، لا تعرف القرار إلا فيه.
يا أهل مكّة: أنتم في أحبّ البلاد إلى الله، وما أخرجكم منه أحد، فاحمدوا الله على هذه النعمة التي تأسّف عليها خير البريّة وسيّد البشريّة محمدٌ –صلى الله عليه وسلم-، عندما قال: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خَرْجَتُ".
يا أهل مكة: كم مَرّة أثقلت الذنوبُ كواهلكم، فجئتم مسجدكم، فحططتم عنده الأوزار، ورجعتم كحمائم البيت طُهراً وخِفّة ظهر من الآثام، حتى كادت أرواحكم بالسعادة تطيرُ معها. وكم مَرّةً تغشتكم الهموم والغموم، وقد علمتم أن جلاءها بالله عند حرمه، فما أتيتموه في أيّ ساعةٍ من ليل أو نهار، إلا وخرجتم منه وقد قويت قلوبكم على مكابدة الحياة، وفاقت عزائمُكم كُلّ عقبات الدنيا. وكم مَرّةً لفظتكم الأقاربُ، وتنكّرَ لكم الأهلُ والجيران، فما بئستم ولا يئستم؛ لأن عندكم حرمَ الله: ملاذَ الطريد، وملجأ الخائف، وحمى المستجير، وبيتَ ابنِ السبيل، وفيه طعامه وشرابه: ماء زمزم، وفيه الصلوات المضاعفات، والدعوات المستجابات.
يا أهل مكّة: الناس يصلّون وأنتم تُصلون، لكن صلاتكم بمائة ألف صلاة في غير بلدكم. والناس آمالُهم وأمانيهم تنحصر في أن يتيسّر لهم الطواف حول البيت، وقد لا تتحقِّق تلك الآمال إلا إذا شاخ أحدهم ومال، ولا يبلغ الآخر منه مُنَاهُ إلا وقد شابَ رأسُه وفؤاده. أمّا أنتم فتطوفون بالرضيع والفطيم، ويطوف منكم الصغير والكبير، وتطوفون بالناس تعلمونهم مناسكهم، ولا يمنعكم أحدٌ من حرمكم في جميع أيام عمركم. حتى إذا حَلّ من أحدكم الأجل: صُلّي عليه عند الكعبة، ودُفن بالحرم، فما غُبط أهلُ بلدٍ كما غُبطتم: في الحياة .. وبعد الممات، فهنيئاً لكم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
يا أهل مكّة: كل عطاءات البلد الحرام لغير أهله هي لكم بأوفر حظٍّ منها وأتمِّ نصيب، ولكم من عطاءاته ما لا يحصل لغيركم، والناس من غير أهل بلدكم قد أعظموا عطاءاته لهم، حتى كان له في نفوسهم من الحُبّ والشوق مَا لا يُعرف لبلد غيره، ولا يَعْرِفُه قلبٌ لبلد ولا بلدٌ من قلب. فماذا يجب أن يكون في قلوبكم لبلدكم هذا، الذي لا يُوجَدُ بلدٌ عطاؤه كعطائه، ولن يوجد؟!!
يا أهل مكّة: أنتم في خير أرض الله، وفي أحب البلاد إلى الله؛ فكونوا خيرَ عباد الله وأحبَّ عباد الله إلى الله "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات".
لئن كانت هذه بعض عطاءات البلد الحرام، فماذا أعطينا البلد الحرام؟!!!
سؤال يحتاج إلى جواب: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".
ـ[مشتاق]ــــــــ[13 - 12 - 05, 01:09 ص]ـ