ويرى الحنفيَّة جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثالث عشر فقط، أما اليوم الثاني عشر فلا يرون جواز الرمي قبل الزوال إلا للمتعجل فقط، أما غير المتعجل فلا يرمي قبل الزوال، على الرواية المشهورة ().
أما صاحبا أبي حنيفة ()، والمالكية، والشافعية في المعتمد عندهم، والحنابلة على الصحيح من المذهب ()، فيرون أنَّ الرمي لا يكون قبل الزوال، بل بعده.
وبعض أهل العلم يرون أنَّ الرمي قبل الزوال لا يجوز إلا لمن أخّر رمي يوم إلى اليوم الذي بعده.
والذي يترجَّح في المسألة هو رأي الجمهور القائلين بمنع الرمي قبل الزوال، وأدلتهم ():
1 ـ قول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، واليومان هما ـ بالاتفاق ـ يومي الحادي عشر، والثاني عشر، فمن رمى صباح الثاني عشر، لم يكنْ تعجَّل في يومين، بل تعجَّل في يومٍ وشيءٍ يسيرٍ من اليوم الثاني. أمَّا مَنْ رمى بعد الزوال، فقد تعجَّل ليومين، لأنَّه مكثَ يومًا كاملاً، وأكثرَ الثاني، وإذا مرَّ أكثرُ اليوم عُبِّر عنه باليوم، كما هي عادة الشارع.
2 ـ أنَّ النبي ? رمى بعد الزوال، وقال: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ)) ().
3 ـ أنَّ النبي ? بادر بالرمي حين زالت الشمس، ورمى قبل أن يصلي الظهر، وكأنه ? بفعله هذا يترقب زوال الشمس ليرمي ثم يصلي الظهر.
4 ـ لو كان الرمي قبل الزوال جائزًا ـ كالرمي يوم النحر ـ لفعله النبي ?، لما في ذلك فوائد؛ منها:
(1) أنَّ في ذلك فعلاً للعبادة في أول وقتها، وهو أمر محمود في الشرع.
(2) ولما في ذلك من التيسير على الأمة.
(3) ولما في الرمي قبل الزوال من تطويل لوقت الرمي، وهو ما تتمناه الأمة.
(4) ويؤد هذا قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ? بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) (). فلمَّا لم يختر النبي ? الرمي قبل الزوال، وعدل إلى الرمي بعد الزوال مع ما فيه من تضييق الوقت، دلَّ على عدم جوازه، وأنَّهم إثمٌ، وهذا ظاهرٌ من نص الحديث، والحمد لله.
5 ـ لو كان الرمي قبل الزوال جائزًا، لرمى النبي ?، ولو مرة واحدة، أو فعله بعض الصحابة ? وأقرّه النبي ?، وقد رُوي في مصادر السنة أنَّ الصحابة ? قدّموا وأخّروا في بعض المناسك، فبلغ ذلك النبي ? فقال لهم: (افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ) ()، وأخرجت لنا مصادر السنة الكثير مِمَّا فعله النبي ?، في حجة الوداع، وكذلك الصحابة الكرام ?.
6 ـ ذكر بعض أهل العلم أنَّ رمي الجمار يدخل ضمن المسائل الشرعية التي لا تُعرف بالقياس، بل بالتوقيف. وقالوا ذلك ردًا على من أجاز الرمي قبل الزوال قياسًا على الرمي يوم النحر ().
ومن خلال العرض السابق نرى أنَّه لم يقل بالرمي قبل الزوال من الأئمة غير أبي حنيفة ?، وخالفه في ذلك صاحباه الإمامان الجليلان: محمد بن الحسن الشيباني، والقاضي أبو يوسف رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وبناء على ما سبق تبين لنا أنَّ قولَ أبي حنيفة ? مخالفٌ للأدلة من ”الكتاب”، و ”السنة”، وعمل كثير من السلف من لدن الصحابة ? فمن بعدهم على خلاف قوله، يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رَحِمَهُ اللَّهُ:
(اعلم أنَّ التحقيق أنَّه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال؛ لثبوت ذلك عن النبي ? ...
وبهذه النصوص الثابتة عن النبي ? تعلم أنَّ قول عطاء وطاووس بجواز الرمي في أيام التشريق، قبل الزوال، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزاه؛ كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنَّه مخالف لفعل النبي ? الثابت عنه، المعتضد بقوله ?: (لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ). ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في ”كتاب الله” ولا ”سنة نبيه ?” شيءٌ يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق، لا مستند له ألبتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه ?، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، والعلم عند الله تعالى) () أ. هـ
ولحساسية مسألة الرمي قبل الزوال، نجد أنَّها كانت محل اهتمام العلماء وطلاب العلم في وقتنا هذا، فقام جماعة منهم ببحث المسألة، وممن وقفت عليه:
¥