قال شيخ الإسلام في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1/ 418): أن المخالفة للكفار لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه بالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والإطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. أهـ
• الحزبية والتعصب الحزبي، والمقصود به التزام النصرة لشخص بعينه أو جمعية أو جماعة بعينها بغض النظر دليل النصرة، وهذا هو ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله (انصر خاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يارسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما، قال تأخذ فوق يديه).
ولا فرق في ذلك بين التعصب لعالم سلفي أو خلفي، أو جماعة سلفية أو غير ذلك، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعظم من ذلك القول أن الجماعة الفلانية تمثل السلف الصالح مثلا، أو أن المجلة الفلانية تمثل منهج السلف ونحو ذلك. والحق أن الجماعات لا تمثل إلا نفسها، وأن الإسلام والسلف الصالح أعظم وأرفع من يمثلوا بكتب معاصرة أو مجلات ونحو ذلك.
وهنا يجب التنبيه على أن ذلك لا ينافي العمل المؤسسي المنظم، بل التنظيم والترتيب والتأسيس من أعظم الطرق الشرعية لتحقيق المصالح الربانية، ومن يقرأ الحديث والسيرة يجد ذلك بينا.
إن من أعظم أسباب تحقق النصرة لهذا الدين صلاح ذات البين وما يتضمن من وحدة المسلمين وتآلفهم، حيث أوصى رب العزة عباده بذلك وأمرهم به (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بيم قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 103 - 105).
فبين تعالى أن أول نعمة من الله بها على المؤمنين بعد نعمة الإيمان هي نعمة الألفة والوحدة والأخوة، بل إن الآية تدل على إن الإيمان والفرقة خصمان مفترقان، وأنه كلما ظهرت الألفة والوحدة كلما دل ذلك على قوة الدين والإيمان، وكلما عظمت الفرقة كلما ضعف الدين والإيمان.
ومن الناس من يعلق هذا الأصل العظيم من صلاح ذات البين بتفاصيل الخلافات الفقهية والمذهبية بين المسلمين، وبالتالي فهو يقيد آيات الوحدة الإسلامية بوجوب انطباق تفاصيل مذهب من يطبق هو عليهم هذا الأصل مع تفاصيل مذهبه. وبالتالي فهو لا يمارس الأخوة والوحدة الإسلامية إلا على نطاق ضيق لا يتسع لعموم المسلمين. ولا شك أن هذا من أعظم مسالك الشيطان، بل هو مسلك تفريق المسلمين. وهو مسلك باطل ترده النصوص الشرعية ويرده قول الله تعالى (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا بلى يا رسول الله. قال صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة).
ولا بد هنا من التنبه إلى أن الفرقة قد تكون عقوبة من الله تعالى بسبب الفساد بين المسلمين، سواء كان هذا الفساد أخلاقي أو فقهي، كما قال تعالى عن النصارى (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون). وبالتالي فيجب المراجعة والرجوع الله تعالى والتوبة إليه من أسباب غضبه سبحانه وتعالى.
وقد ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم).
إن سحب الخلافات الفقهية والمذهبية على وحدة الصف يدل على أمرين كبيرين: الأول ضعف الإيمان، والثاني ضعف الفقه.
¥