• وفي الوقت الذي ندب فيه الإسلام المبادرة إلى فعل الخيرات وإلى نفع الناس وإلى الفاعلية والإنتاج، والتفضل وعدم سؤال الناس، نجد المسلمين في الوقت الحاضر تحولوا من موقع المتفضل الفاعل المنتج إلى دور السائل المحتاج المستهلك، وباتوا يحتاجون إلى غير المسلمين أكثر من حاجة هؤلاء إليهم، بل تكاد تكون الحاجة إليهم في كل شيء: في السلاح، والصناعة، والتكنولوجيا، والنقل، والاتصالات، والمعلومات، والإدارة، وكل ما يرتبط بالمدنية والعلم، بل حتى في المأكل والملبس. ولنا أن نتخيل الآن كيف يكون حال المسلمين لو أن الغرب طلب منهم أن يعتزل كل طرف الآخر، كيف سيكون الحال بلا سيارت ولا طائرات، ولا حاسبات، ولا معلومات، ولا سلاح، ولا، ولا، ...
• ومع كل هذه المفارقات يشعر الكثير من المسلمين بالزهو والعلو والفخر على العالمين، دون أن يخالجهم الخجل والحياء من الله تعالى بتقصيرهم العظيم وإعراضهم عن أمره العظيم في أن يأخذوا دين الله العزيز بالقوة التي أمر الله. ثم كيف يفخر المرء بالظلم والتقصير مع الله من جهة، وحاجته الماسة إلى الكفار من جهة أخرى.
• ولا تزال البلايا تكشف عوار الأمة، بلاء بعد بلاء، وحال الأمة لم يتبدل، وكأننا أصبحنا أصناما بلا روح ولا حس، وكأن مآسينا لا تعنينا. نعم ندرك أن المرء يتعلم أول ما يتعلم من معلمه الخبير، وقد يتعلم بالإشارة والإيماء إذا كان حليما كما يقال، وقد يتعلم من الخطأ، وإن لم ينفع ذلك كله يتعلم بالصفعة والجرح، كما يتعلم الطفل إذا أمسك بالجمر، فما بالنا ومعلمنا خير البشر وديننا خير دين، ويشهد العالم بأسره للخير الذي جاء به الإسلام للبشرية على مر العصور، ولا يزال ينهل من ذلك التراث الرباني. وأما جراحنا فالحال فيها يغني عن المقال، تنبئك بها عيون الثكلى، وحسرة الحليم، بل ويأس الشباب.
• ولا يزال بلاء بغداد تلهج بحيرته القلوب والعقول قبل الألسن. نعم بلغ بنا الحال أن نفرح باحتلال الغرب لأرضنا، ونسعى أن ينقذونا وينصفونا من أبناء جلدتنا، وليأخذوا بعد ذلك نفطنا وزرعنا وما يشاءون من خيراتنا، يكفى أن يحررونا من أنفسنا.
• لقد أكد بلاء المسلمين في بغداد حقيقة حال الأمة بأسرها، بشكل هو أجلى وأفصح من سائر ما ابتليت به الأمة. لقد كشف تفاصيل الظلم الموغل بالأمة على أيدي (أبطالها) و (رموزها)، ولا يبعد إطلاقا أن يكون أكثر رموز الأمة وأبطالها مثل ذلك الرمز الساقط (صدام).
• لقد كشف البلاء مدى الفساد الذي يفعله الظلم والبعد عن دين الله تعالى في أبناء الأمة، إلى الحد الذي يتحول فيه الرجل المحترم المتعلم إلى وحش كاسر، ولص محترف، لا يرعى حرمة ولا قربة ولا ذمة إذا تحرر من ذلك الوحش المتسلط ليتقمص هو دوره من أجل حفنة من دراهم حرم منها سنين طوال.
• كشف البلاء من جملة ما كشف هشاشة العلاقة بين المسلمين وتفاهتها، فهي حتى أوهى من بيت العنكبوت. أين هو (الجسد الواحد) في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأين (فإن استنصروكم الدين)، وأين تفريج الكربات، وأين معاني الأخوة في الدين ولوازمها. كلها ضاعت حين جد الجد. ولكن للإنصاف نقول إنها بلا شك كانت حاضرة في الخطب والمؤتمرات والاجتماعات، لابسة أزهى اللباس ومتعطرة بأزكى ريح، ومتعبرة بأبلغ العبارات، وأكثرها أدبا وكياسة، طبعا (للعرض فقط).
الجميع، إلا من رحم الله، يجمعهم أمرين: الظلم للعباد، والرعب من الأعداء. أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
• كشف البلاء أيضا عن الفتاوى الخجولة لكثير من مؤسسات الفتوى، فلقد كانت فتاوى عرجاء، غير عملية، هي أيضا للعرض فقط، لأنها كانت فتاوى منقولة من الكتب، ولم تكن متفاعلة مع الواقع، ولا شك أن شأن الفتوى غير شأن الحكم الشرعي، فإن الفتوى تستجمع استخراج المناط مع تحقيق المناط والشروط والموانع في الواقعة المراد الحكم فيها. فإن من غير الصحيح أن تفتي مثلا الفقير أن يتصدق، أو تفتي الضعيف الذي لا يقدر على حماية داره أن يحمي دار الآخرين، أو السجين المقيد بأنواع القيود المادية والمعنوية أن يحرر غيره، وهو المحتاج إلى التحرير. ومن المفارقات أن تجد من يتقاتل لفتوى الجهاد ضد الأمريكان من جهة، ويفرح لسقوط صدام على أيديهم من جهة أخرى. ولا شك أن هذا نوع من النفاق، وأنه إنما كان يقول بالجهاد دفعا للحرج، وحماية للنفس من جمهور المتفرجين، وأيضا هو نوع من التسويق لمشروعه الحزبي.
• وأيضا كشف البلاء ما تفعله (الميديا) من الكذب وتشويه الحقائق في عقول الناس وقلوبهم، ويبدو أن الميديا العربية نجحت في منافسة الغربية في هذا المجال نجاحا باهرا. نعم لقد ساهمت بوعي أو بغير وعي في محاربة أبناء جلدتها هي الأخرى، والمتطوعين العرب في العراق كانوا من ضحايا هذا الإعلام. وما العجب الكبير للسقوط المفاجئ لبغداد إلا دليلا على الغش الإعلامي للجماهير. لقد كان ينتظر من الإعلام العربي أن يكشف الحقائق كما هي ويكشف حقيقة واقع الأمة ليترك للجمهور تقدير الموقف المناسب. وفي حالة العراق أغفل الإعلام واقع المسلمين طوال خمسة وثلاثين عاما من قتل ملايين، وتشريد ملايين أكثر، ونهب ثروة بلد من أغنى بلدان العلم. هذا في الوقت الذي تطبل فيه وتزمر وتقيم الدنيا ولا تقعدها لفضيحة أخلاقية لمسؤول ما في دولة ما. لا شك إن من الظلم والغش تصغير العظيم من الأمور، أو تعظيم التافه منها، أو إخفاء المسائل العظيمة التي تؤثر على فاعلية الأمة أو طمسها، في الوقت الذي تبرز فيه حقائق تافهة لا يشكل ذكرها قيمة في واقع الحال. ثم كيف لنا أن نطبل أو تطبل وسائل الإعلام للانتصار على الأعداء بحكام كهؤلاء، وشعوب مسلوبة من أبسط مقومات الإنسانية. وبالتالي تفقد المؤسسات الإعلامية دورها البناء للتتحول إلى دور هدام سلبي تجاري، فهي إنما تفتح ذراعيها لمن يدفع أكثر.
• ويبقى خلاص الأمة في الحقيقة المطلقة التي ذكرها الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) لابد من تغيير واقع الأمة باتباع السنن الشرعية، والسنن الكونية لتحيا الأمة حياة تقود بها البشرية إلى سعادة الدارين، كما فعلت قبل بضع قرون.
كتبه أبو بكر البغدادي
¥