كذبت لَعَمْر الله لنقتلنَّه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيَّانِ الأوْسُ والخزرج حتى هَمُّوا أن يَقْتَتِلوا ورسول الله e قائم على المنبر، فلم يَزَلْ رسول الله e يُخَفِّضُهم حتى سكتوا وسَكَتَ.
وفي رواية أخرى صحيحة قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر، وما علمْتُ به، قام رسول الله e فيَّ خطيباً، وما علمت به، فتشهد فحمد الله وأثنى [عليه] بما هو أهله، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ، أشِيروا عَلَيَّ في أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلي وَأَيْم اللهِ ما عَلِمْتُ على أَهْلي سُوْءاً قَطُّ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ؟ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوْءِ قَطُّ وَ لا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إلاَّ وَأنَا حَاضِر، وَلا كُنْتُ في سَفَرٍ إلاَّ غَابَ مَعِيَ"، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله مُرْني أن تُضْرب أعناقهم.
فقوله:" مَنْ يَعْذِرُني" أي: من يُنْصفني ويقيم عذري إذا انتصفتُ منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي وأبْنِه لهم، فثبت أنه e قد تأذَّى بذلك تأذِّياً استعذر منه، وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حميَّةٌ: مُرْنَا نضرب أعناقهم؛ فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم ولم ينكر النبيُّ e على سعد استئمارَه في ضرب أعناقهم، وقوله: إنك معذور إذا فعلت ذلك.
كان بين أهل الإفك قوم مؤمنون
يبقى أن يقال: فقد كان من أهل الإفك مِسْطَح وحَسَّان و حَمْنة، ولم يُرْمَوا بنفاقٍ، ولم يقتل النبي e أحداً بذلك السبب، بل قد اختُلف في جَلْدهم.
وجوابه:/ أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبي e، ولم يظهر منهم دليل [على] أذاه، بخلاف ابن أُبيٍّ الذي إنما كان قصده أذاه، ولم يكن إذ ذاك قد ثَبَتَ عندهم أن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجٌ له في الآخرة، وكان وقوعُ ذلك من أزواجه ممكناً في العقل، ولذلك توقف النبي e في القصة، حتى استشار علياً وزيداً، وحتى سأل بَرِيرة، فلم يحكم بنفاق مَنْ لم يقصد أذى النبي e لإمكان أن يُطلِّق المرأة المقذوفَةَ. فأما بعد أن ثَبَتَ أنهن أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، فقذفهن أذى له بكل حال، ولا يجوز ـ مع ذلك ـ أن يقع منهنَّ فاحشة؛ لأن في ذلك جواز أن يقيم الرسول مع امرأة بغيّ، و أن تكون أم المؤمنين موسومة بذلك، وهذا باطل، ولهذا قال سبحانه:) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه وأنه معدود من أذاه.
الوجه الثاني: أن الآية عامة، قال الضحاك: قوله تعالى:) إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المحْصَنَاتِ الغَافِلاتِِ المُؤْمِنَاتِ (يعني به أزواج النبي e خاصة، ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة.
وقال [أبو سلمة] بن عبدالرحمن: قذف المحصنات من الموجبات، ثم قرأ) إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ (الآية. وعن عمرو بن قيس قال: قذفُ المحصنة يُحْبِطُ عملَ تسعين سنةً، رواهما الأشج.
العبرة بعموم اللفظ
وهذا قول كثير من الناس، [ووجهه] ظاهر الخطاب فإنه عام، فيجب إجراؤه على عمومه، إذ لا موجب لخصوصه، وليس [هو] مختصاً بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي e داخل في العموم، وليس هو من السبب، و لأنه لفظ جمع و السبب في واحدة، و لأن قَصْرَ عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك وقد علم أن شيئاً منها لم يقصر على سببه، و الفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورَدَّ/ الشهادة و التفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم.
فيمن نزلت آية القذف
وقد روي عن النبي e من غير وجه وعن أصحابه أن قَذْفَ المحصنات من الكبائر، وفي لفظٍ في "الصحيح": "قَذْف المحصنات الغَافِلاَتِ المؤمناتِ" وكان بعضهم يتأوَّلُ على ذلك قوله:) إنَّ الّذينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ (ثم اختلف هؤلاء:
¥