تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذا يفيد أن النبي e كان يحتمل من الكفار والمنافقين قبل براءة ما لم يكن يحتمل منهم بعد ذلك، كما قد كان يحتمل من أذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة والنصرة، لكن هذه الكلمة ليست من هذا الباب كما [قد] بيناه.

الجواب الثاني: أن هذا ليس من السب الذي ينتقض به العهد؛ لأنهم إنما أظهروا التحية الحسنة والسلام المعروف، ولم يظهروا سباً ولا شتماً، وإنما حرفوا السلام تحريفاً خفياً لا يظهر ولا يَفْطِنُ [له] أكثر الناس، ولهذا لما سلم اليهودي على النبي e بلفظ السام لم يعلم به أصحابه حتى أعلمهم وقال: "إِنَّ اليَهُودَ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُم فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكُم"، وعهدهم لا ينتقض بما يقولونه سراً من كفر أو تكذيب، فإن هذا لا بد منه، وكذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب، وإنما ينتقض بما يظهرونه.

وقد ذكر غير واحد أن اليهود كانوا يدخلون على النبي e فيقولون: السام عليك، فَيَرُدُّ عليهم رسول الله e: " وَعَلَيْكُمْ" ولا يدري ما يقولون، فإذا خرجوا قالوا: لو كان نبياً لعُذبنا، واستُجيب فينا، وعَرفَ قولنا، فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا: السام عليك، فَفَطِنَت عائشة إلى قولهم فقالت: وعليكم السام والذَّامُ والدَّاءُ واللعنة، فقال/ رسول الله e: " مَهْ يَا عَائِشَة، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، ولا يُحِبُّ [الفُحْشَ]، وَلاَ التَّفَحُّشَ" فقالت: يا رسول الله، ألم تسمع إلى ما قالوا؟ (فقال رسول الله e: " أَلَمْ تَسْمَعِي مَا رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ؟ " فأنزل الله تعالى:) وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ (الآية)، فقال رسول الله e: " إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ".

فهذا دليل على أن النبي e لم يكن يَظْهر له أنه سب، ولذلك نهى عائشة عن التصريح بشتمهم، وأمرها بالرفق بأن ترد عليهم تحيتهم، فإن كانوا قد حَيَّوا تحيةً سيئةً استجيب لنا فيهم، ولم يُسْتجب لهم فينا، ولو كان ذلك من باب شتم النبي e والمسلمين الذي هو السب لكان فيه العقوبة ولو بالتعزير والكلام.

فلما لم يشرع رسول الله e في مثل هذه التحية تعزيراً، ونهى مَن أغلظ عليهم لأجلها، علم أن ذلك ليس من السب الظاهر؛ لكونهم أخفوه كما يُخْفِي المنافقون نفاقهم، ويُعرفون في لحن القول، فلا يعاقبون بمثل ذلك، وسيأتي إن شاء الله تمام الكلام في ذلك.

الجواب الثالث: أن قول أصحاب النبي e له: ألا نقتله؟ لما أخبرهم أنه قال: السام عليكم، دليل على أنه كان مستقراً عندهم قتل الساب من اليهود؛ لما رأوه قتل ابن الأشرف والمرأة وغيرهما، فنهاهم النبي e عن قتله، وأخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله؛ لأنه ليس إظهاراً للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما، وإنما هو إسرار به كإسرار المنافقين بالنفاق.

الجواب الرابع: أن النبي e كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته، وليس للأمة أن تعفو عن ذلك.

يوضح ذلك أنه لا خلاف أن من سب النبي e أو عابه بعد موته من المسلمين كان كافراً حلال الدم، وكذلك من سب نبياً من الأنبياء، ومع هذا فقد قال الله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَا قَالُوا وقال تعالى:/) وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ (، فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحدٌ من المسلمين وجب قتله، ولم يقتلهم موسى، وكان نبينا e يقتدي به في ذلك؛ فربما سمع أذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك، قال الله تعالى:) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ (الآية، وقال:) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير