كما قدمناه.
الوجه الثاني: أن يقال: لا خلاف أنهم إذا [أقروا] على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم، لا في دمائهم ولا في أبشارهم، ولو أظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار.
ثم إنه لا يقال: إذا لم يعاقبوا بالتعزير (على الشرك لم يعاقبوا) على السب الذي هو دونه، وإذا كان هذا السؤال معترضاً على الإجماع لم يجب جوابه، كيف والمنازع قد سَلّم أنهم يعاقبون على السب؟ فعلم أنه لم يقرهم عليه، فلا يقبل منه السؤال.
والجواب عن هذه الشبهة مشترك؛ فلا يجب علينا الانفراد به.
الوجه الثالث: أن الساب ينضم إلى شركه الذي عوهد عليه، بخلاف المشرك الذي لم يسب، ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر، وإن كان دونه، فإن اجتماع الذنبين يوجب جرماً مغلظاً لا يحصل حال الانفراد.
الوجه الرابع: قوله: "ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول"، ليس بجيد على الإطلاق، وذلك لأن أهل الكتاب طائفتان:
أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول، وسبه أعظم من تكذيبه، فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول e؛ فإن جميع ما يكفرون به ـ من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما أخبر الله به من أمور الآخرة، وغير ذلك ـ متعلق بالرسول، فسبه كفر بهذا كله، لأن ذلك إنما علم من جهته، وليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث يُشهد عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن/ محمد e، وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه، واختلط كثير منه أو أكثره، والواجب فيما لم نعلم حقيقته منه أن لا يُصدَّق ولا يُكَذَّب.
وأما النصارى فسبهم للرسول طعن فيما جاء به من التوحيد وأنباء الغيب والشرائع، وإنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال: إن عيسى عبدالله ورسوله، كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أنْ غيَّرَ شريعة التوراة، وإلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة موروثة، بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها، ثم لا يرعونها حق رعايتها؛ فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد، وللشرك، وللتكذيب بالأنبياء والدين، ومجرد شركهم ليس متضمناً لتكذيب جميع الأنبياء وردِّ جميع الدين، فلا يقال: ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول، بل سب الرسول فيه ما هم عليه من الشرك وزيادة.
وبالجملة، فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما [هو] بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين]، فلولا الرسل لما عُبِد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولا كانت له شريعة في الأرض.
ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عَرَفَت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين؛ فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستضاء بذلك، واستأنس به، سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر، وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية، وإنما يُنال به الظن والحسبان.
والقدر الذي يمكن العقل إدراكه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه، وذكّروهم به، ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
والقدر الذي تعجز العقول عن إدراكه علموهم إياه، وأنبأوهم به؛/ فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه، بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة، وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات، ولا يَسْتَرِيْبَنَّ العاقل في هذا، فإن الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلاسفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده، وأقبلوا على [عبادة] الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت، فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره.
¥