تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفراً وحراباً ـ وإن كان متضمناً لذلك ـ أن النبي e قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه، وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره، ولو كان السب مجرد رِدَّةً لوجب قتله كالمرتد يجب قتله، فعلم أنه قد يغلَّب في السب حق النبي e بحيث يجوز له العفو عنه.

ومما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحداً من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة مالا يستحقه بمجرد نقض العهد؛ فيكون سب رسول الله e دون سب واحد من البشر؟!

ومما يدل على ذلك أن ساب النبي وشاتمه يؤذيه وهجاؤه كما يؤذيه التعرض لدمه وماله، قال الله تعالى لما ذكر الغِيْبَة:) أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه (. فجعل الغِيْبَة التي هي كلام صحيح بمنزلة أكل لحم المغتاب ميتاً، فكيف ببهتانه؟ وسَبُّ النبي e لا يكون قط إلا بهتاناً.

وفي "الصحيحين" عن النبي e أنه قال: "لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ"، وكما يؤذي ذلك غيره من البشر.

وأيضاً، فإن ذلك يؤذي جميع المؤمنين، ويؤذي الله سبحانه وتعالى، ومجرد الكفر والمحاربة لا يحصل بهما من أذاه ما يحصل بالوقيعة في العرض مع المحاربة، فلو قيل: "إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده (بمنزلة غيره ممن انتقض عهده") لكانت الوقيعة في عرض رسول الله e وأذاه بذلك جُرْماً لا جزاء له من حيث خُصوص النبي e وخصوص أذاه، كما لو قتل/ رجل نبياً من الأنبياء فإن لقتله من العقوبة ما لا يستحق على مجرد الكفر والمحاربة، وهذا كله ظاهر لا خفاء به، فإن دماء الأنبياء وأعراضهم أجَلُّ من دماء المؤمنين وأعراضهم، فإذا كان دماء غيرهم وأعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فأَنْ لا تندرج عقوبة دمائهم وأعراضهم في عقوبة نقض العهد بطريق الأولى.

سب الرسول يتعلق به جملة حقوق

ومما يوضح ذلك أن سب النبي e [ تعلق] به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طَعَن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طَعَن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته، وتعلق به حتى جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم؛ فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، [بل] عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسبُّ له أعظم عنده من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أَنَّهُ أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين، وتعلق به حق رسول الله e من حيث خصوص نفسه؛ فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً مَن يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هَتْكَ عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله، فإنَّ قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه، فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُّفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة، فكيف يجوز أن يعتقد عاقل أن هذه الجناية بمنزلة ذمي كان/ في ديار المسلمين فلَحِق ببلاد الكفار مستوطناً لها مع أن ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله ولا لرسوله ولا لأحد من المسلمين أكثر ما فيه أن الرجل كان معتصماً بحبلنا فخرق تلك العصمة، فإنما أضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين.

فعلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير