إذا ثبت ذلك فنقول: هذه الجناية جناية السب موجَبُها القتل؛ لما تقدم من قوله ?: "مَن لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ؟ " فعلم أن مَن آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل، ولما تقدم من إهدار النبي دم المرأة السابة مع أنها لا تقتل لمجرد نقض العهد، ولما تقدم من أمره e بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين، وندبه الناس إلى ذلك، والثناء على من سارع في ذلك، ولما تقدم من الحديث المرفوع، ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم أن من سب نبياً قتل، ومن سب غير نبي جلد.
والذي يختص بهذا الموضع أن نقول: هذه الجناية إما أن يكون موجبها بخصوصها القتل، أو الجلد، أو لا عقوبة لها، بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر والحراب.
وقد أبطلنا القسم الثالث، والقسم الثاني باطلٌ أيضاً لوجوه:
أحدها: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي e ينبغي أن يجلد لسب النبي e؛ لأنه حق آدمي، ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر، ومعلوم أن هذا خلاف ما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة، فإنهم اتفقوا على القتل فقط، فعلم أن موجب كلا الجنايتين القتل، والقتل لا يمكن تعدده، وكذلك كان ينبغي أن يجلد المرتد لحق النبي e، ثم يقتل لردته، كمرتد سب بعض المسلمين، فإنه يُسْتوفَى منه حق الآدمي ثم يقتل.
ألا ترى أن السارق يقطع لسرقته التي هي حق لله، ويرد المال المسروق إذا كان باقياً بالاتفاق، ويغرم بدله إن كان تالفاً عند أكثر الفقهاء، ولا يدخل حق الآدمي في حق الله مع إيجاد السبب.
الثاني: أنه لو لم يكن موجبه القتل وإنما القتل/ موجب كونه ردة لم يجز للنبي e العفو عنه؛ لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق، لا يجوز العفو عنه، فلما عفا عنه النبي e في حياته دل على أن السب نفسه يوجب القتل حقاً للنبي e، ويدخل فيه حق الله تعالى، ويكون سابه وقاذفه بمنزلة ساب غيره وقاذفه، قد اجتمع في سبه حقان: حق لله، وحق لآدمي، فلو أن المسبوب والمقذوف عفا عن حقه لم يُعزَّر القاذف والساب على حق الله، بل دخل في العفو، كذلك النبي e إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره، كما لا يعزَّر ساب غيره لمعصيته، مع أن المعصية المجردة عن حق آدمي توجب التعزير.
يوضح ذلك أنه قد ثبت أنه كان له أن يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر، وحديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه، وحديث الشعبي في قتل الخارجي، وكما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها، وثبت أن له أن يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود وأبي سعيد وجابر وغيرهم، فعلم أن سبه يوجب القتل كما أن سب غيره يوجب الجلد، وإن تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله، ويكون الكفر والحراب نوعين:
[أحدهما]: حق خالص لله تعالى.
و الثاني: ما فيه حق لله وحق لآدمي.
كما أن المعصية قسمان:
أحدهما: حق خالص لله.
والثاني: حق لله ولآدمي، ويكون هذا النوع من الكفر والحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل، ويفارقه في الاستيفاء فإنه إلى الآدمي، كما أن المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد، وتفارق غيرها في أن الاستيفاء فيها إلى الآدمي.
يوضح هذا أن الحق الواجب على الإنسان قد يكون حقاً محضاً لله، وهو ما إذا كفر أو عصى على وجهٍ لا يؤذي أحداً من الخلق، فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال، وقد يكون حقاً محضاً لآدمي بمنزلة الديون التي تجب للإنسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قَرْض ونحو ذلك من الديون التي ثبتت بوجه مباح، فهذا لا عقوبة فيه بوجه، وإنما يعاقب على الدَّيْن إذا امتنع من وفائه، والامتناع معصية،/ وقد يكون حقاً لله ولآدمي ـ مثل حد القذف و القَوَد وعقوبة السب ونحو ذلك ـ فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد والتعزير، والاستيفاء فيها مفوَّض إلى اختيار الآدمي: إن أحب استوفى القَوَد وحد القذف، وإن شاء عفا، فسب النبي e لو كان من (القسم الأول لم يجز العفو عنه للنبي e، ولو كان من) القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال، فتعين أن يكون من القسم الثالث، وقد ثبت أن عقوبته القتل، فعلم أن سب النبي ? ـ من حيث هو ـ سب له وحق لآدمي عقوبته القتل، كما أن سب غيره من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته الجلد، إما حداً أو تعزيراً، وهذا معنى صحيح واضح.
¥