قال: ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ووجه القياس والاستدلال، إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاضٍ فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة، وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلطٍ فيفعل ذلك لينبه على ما ذهب إليه، ولو كان فيما يفتي به غُموضٌ فحسن أن يلوح بحجته.
وقال صاحب الحاوي: لا يذكر حجة ليفرق بين الفتيا والتصنيف.
قال: ولو ساغ التجاوز إلى قليلٍ لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرساً.
والتفصيل الذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع.
وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: (وهذا إجماع المسلمين)، أو: (لا أعلم في هذا خلافاً)، أو: (فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب)، أو: (فقد أثم وفسق)، أو: (وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر)، وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجيه الحال.
الثامنة عشرة: قال الشيخ أبو عمرو -رحمه الله -: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وإن قلَّ، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل، ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله - تبارك وتعالى -، وكماله وتقديسه المطلق، فيقول معتقدنا فيها، وليس علينا تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا، بل نكل علم تفصيله إلى الله - تبارك وتعالى - ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا، فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر العلماء والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم.
ومن كان منهم اعتقد اعتقاداً باطلاً تفصيلاً، ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم، وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة، فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيح -بفتح الصاد المهملة- الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
قال: والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة، وبأنها أسلم لمن سلمت له، وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها، وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.
واستفتي الغزالي في كلام الله - تبارك وتعالى - فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين، وإنما هو من المضلين، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزِّمِن المقعَد إلى السفر في البراري من غير مركوب.
وفي رسالة له: الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر، الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين، سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل، بكل ما أنزله الله تعالى، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل.
وقال الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي: إن مما أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان موسوماً بالفتوى في الفقه لم ينبغ - وفي نسخة: لم يجز- له أن يضع خطه بفتوى في مسألة من علم الكلام.
قال: وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة.
قال: وكره بعضهم أن يكتب: ليس هذا من علمنا، أو ما جلسنا لهذا، والسؤال عن غير هذا أولى، بل لا يتعرض لشيء من ذلك.
وحكى الإمام الحافظ الفقيه أبو عمرو بن عبد البر الامتناع من الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى، قال: وإنما خالف ذلك أهل البدع.
قال الشيخ: فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلاً، وذلك بأن يكون جوابها مختصراً مفهوماً، ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون، والسؤال عنه صادر عن مسترشد خاص منقاد، أو من عامة قليلة التنازع والمماراة، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا، وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية، وذلك منهم قليل نادر والله أعلم.
¥