تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه، وإن لم يكن منتسباً بني على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي: هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين؟ يأخذ برخصه وعزائمه؟ أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده عالماً بعينه، فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء؟ أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله؟ فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين. والثاني: يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا، وهو جارٍ في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.

ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً هواه، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز، وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول، فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذّبة وعرفت، فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين، ونحن نمهد له طريقاً يسلكه في اجتهاده سهلاً، فنقول:

أولاً ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي، والميل إلى ما وجد عليه آباءه، وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم ; لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما.

ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر، ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم، فسبرها وخبرها وانتقدها. واختار أرجحها، ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل، فتفرغ للاختيار والترجيح، والتكميل والتنقيح، مع معرفته، وبراعته في العلوم. وترجحه في ذلك على من سبقه، ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك. كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد، وهذا مع ما فيه من الإنصاف، والسلامة من القدح في أحد الأئمة جلي واضح، إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي، والتمذهب به [3].

الرابعة: إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب: أحدها: يأخذ بأغلظهما، والثاني: بأخفهما، والثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة، والرابع: يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه، والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف، وعند الخطيب البغدادي، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه.

وقال الشيخ أبو عمرو: المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتين فيعمل بفتواه، وإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر، وعمل بفتوى من وافقه، فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في التحريم والإباحة، وقبل العمل، اختار التحريم، فإنه أحوط، وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما، وإن أبينا التخيير في غيره ; لأنه ضرورة وفي صورة نادرة.

قال الشيخ: ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين، وأما العامي الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتياً آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به.

وهذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة، وهي: الثالث والرابع، والخامس، والظاهر أن الخامس أظهرها ; لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب، فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها، والفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين والله أعلم.

الخامسة: قال الخطيب البغدادي: إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه إلا مفتٍ واحد فأفتاه لزمه فتواه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير