ويمكن أن يكون الذهبي قد نسخها حين رآها بخط ابن السَّرَّاج، لمقصد عنده، كما يفعل المؤرخ المجمّع لمادته العلمية على أن يقول فيها رأيه بعد، ثم لم يتيسر له ذلك، وبقيت بخطه حتى عثر عليها العلائي.
وعلى هذا فما كُتِبَ بأول الرسالة من قبل أحد النساخ ـ وأظنه الحافظ العلائي ـ من قوله: «رسالة نصيحة من الذهبي لابن تيمية عفا الله عنهما» هو من اجتهاده وفهمه، إذ رأى في صدر الرسالة ما رأى.
ـ[أبو عمر الدوسري]ــــــــ[07 - 03 - 06, 09:17 م]ـ
مكانة ابن تيمية عند الذهبي
قال الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، في كتابه (ذيل تاريخ الإسلام): «ابن تيمية، الشَّيخ، الإمام العالم، المُفسّر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدِّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف الباهرة والذكاء المفرط، تقي الدين، أبو العبَّاس، أحمد، ابن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم (1) ابن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السَّلام مؤلف «الأحكام»، ابن عبد الله ابن أبي القاسم الحَرَّاني، ابن تَيْميَّة، هو لقب لجده الأعلى.
مولده في عاشر ربيع الأوَّل، سنة إحدى وستين وست مئة، بحرَّان، وتحول به أبوه وأقاربه إلى دمشق في سنة سبع وستين، عند جور التَّتار؛ منهزمين في الليل؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة؛ فإنَّ العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفرار، وخافوا من أن يدركهم العدو، ولجأوا إلى الله، فسارت البقر بالعجلة، ولطف الله تعالى، حتَّى انحازوا إلى حد الإسلام.
فسمع من: ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علان، وخلق كثير، وأكثر وبالغ.
وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، و «سنن أبي داود»، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة، والذكر، والصيانة.
ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف؛ حتَّى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثمَّ يَستدل ويُرجّح ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإنَّ شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه؛ فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح، أو إلى المسند، أو إلى السنن منه؛ كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف. وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه.
هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة الَّتي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذّ النفس، من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.
ولقد سارت بتصانيفه الركبان، في فنونٍ من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاويه في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك، تبلغ ثلاث مائة مجلد، لا بل أكثر.
وكان قوَّالاً بالحق، نهّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار. ومن خالطه وعرفه؛ قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه؛ ينسبني إلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا! فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين، بشرٌ من البشر تعتريه حدّة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس، ونفوراً عنه.
وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع؛ فإنَّ كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرّون بندور خطئه.
لست أعني بعض العلماء الَّذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقت له، حتَّى استجهلوه وكفَّروه ونالوا منه، من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه، ويرد عليه بعلم.
¥