وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران ـ رحم الله الجميع ـ (1).
وأنا أقلّ من أن ينبّه على قدره كلمي، أو أن يوضّح نبأه قلمي؛ فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنَّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جُوده حاتمي، وشجاعته خالدية.
ولكن قد يَنْقِمون عليه أخلاقاً وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع. فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم، أو صمت بحلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثمَّ استغفر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإلاَّ؛ فهو لا يدري ولا يدري أنَّه لا يدري.
وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولا تعذر ابن تَيْميَّة في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى، وعدم الإنصاف!
وإن قلت: لا أعذره، لأنَّه كافر، عدوّ لله تعالى ورسوله! قال لك خلقٌ من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلاَّ مؤمناً محافظاً على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، معظِّماً للشريعة ظاهراً وباطناً. لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كان كذلك؛ لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم.
ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهّي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن، أو بالحديث، أو بالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسوةَ مَنْ تقدمه من الأئمة، فإن كانَ قد أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كانَ قد أصاب؛ فله أجران.
وإنَّما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى، ولم يُبْدِ حجة، ورجل تكلَّم في مسألة بلا خميرةٍ من علم، ولا توسُّعٍ في نقل؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل.
ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العالم؛ فإن الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه. ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإن الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدوها محاسن. وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله، ولو على أنفسهم وآبائهم.
فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني، ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فالله يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله!.
وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة. تعتريه حدَّه، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوّه مُسرف مُكثر، كلا والله!
توفي ابن تيمية إلى رحمة الله تعالى معتقلاً بقلعة دمشق، بقاعة بها، بعد مرض جَدَّ أياماً، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيّانا والمسلمين» (1).
ـ[أبو عمر الدوسري]ــــــــ[07 - 03 - 06, 09:23 م]ـ
وقال في (تذكرة الحفاظ):
¥