قلت: يَفهم مما سبق أن الذهبي ـ رحمة الله عليه ـ كان يستعظم من مزاج هذا الطودالعلمي والإمام الربّاني أن يظهر كل هذه الحدة والثوران، وصك المخالف المحاور له بحادّ القول وإبَرِه، ويبدو أنه رأى من تلك الحوارات وشهد من تلك المناظرات ما أداه لهذا الرأي، ولعلّه نصحه في ذلك في جملة من نصحه (1).
وقد قال الذهبي في (تاريخ الإسلام) ـ وكان تأليفه في حياة ابن تيميةـ عند ذكره قيام متعصّبة الأشاعرة على أبي العباس بشأن (الحموية): « .. وكان قد لحقهم حسد للشيخ وتألّموا منه بسبب ماهو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته، وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير للنفوس، ولوسلم من ذلكلكان أنفع للمخالفين لا سيما عبارته في هذه الفُتيا الحموية، وكان غضبه فيها لله ولرسوله باجتهاده، فانتفع بها أناس وانفصم بها آخرون ولم يحملوها .. » (1).
وأوضح مثال على كلام الذهبي هذا، ماوقع لأبي حيان الأندلسي (ت745هـ) مع شيخ الإسلام، فقد كان أبو حيان معجباً به حتى جمعهما مجلس فتحاورا في مسألة من العربية، فلما أورد أبو حيان كلام سيبويه (ت180هـ) كأنه يحتج به، قال له أبو العباس رحمه الله: «يفشر سيبويه، ما كان سيبويه نبي النحو، ولا كان معصوماً، بل أخطأ في (الكتاب) في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت»،ء (1) ولكن يبدو لي أن أبا حيان قد برَّر انتكاس موقفه من شيخ الإسلام بعد هذه الحادثة بسبب يُرضي أَنَفَته، فزعم أنه إنما طرء عليه هذا التغيير لمّا وقف على ما تضمّنه (كتاب العرش) لأبي العباس» (1).
وكان أمر مزاجه الحادِّ مما تناقله أصحابه وعرفوه به، فقد حكى ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) للمؤرخ الصفدي من ذلك حكاية، وخلاصتها أنه تحاور مع بعضهم في مسألة وهو صغير وكان في يده كتاب علم فلما أغضبوه ألقى المجلد من يده غيظاً، فلما أنكروا عليه ذلك ذكَّرهم بقصة موسى عليه السلام حين ألقى الألواح (1). وأقول: كأن أبا العباس ـ سقى الله قبره شآبيب الرحمةـ كان يعتذر عن وجود هذه الخصلة لديه عندما روى لتلميذه الذهبي: أن جدّه المجد بن تيمية (ت652هـ) كانت فيه حدّة (1). والذي يعنينا أنه رحمه الله كان يقهر حدّته هذه بحلم وصفح.
لقد كان الإمام الذهبي كما يظهر من كلامه السابق محبّاً لشيخ الإسلام، وكان هذا الحب معتدلاً كما ينتظرمن إمام منصف عالم بأقدار الرجال، وليس فيما اطّلعت عليه عبارات سيئة فيه اللّهم إلافي (بيان زغل العلم) و «النصيحة».
أما «النصيحة» فقد ازددنا علماً ببراءة الذهبي منها، بعد العثور على المتهم الرئيس بإرسالها، وأما (زغل العلم) فقد مرّت بك قبيح كلماتها، ونازل تعبيراتها في حق شيخ الإسلام، مما يدعو إلى النظر فيها بريبة، وتغليب احتمال كونها منحولة عليه أيضاً، أو أن تلك العبارات قد أقحمت إقحاماً في الكتاب، ولعلّ الله تعالى يوفّق أحد الدارسين إلى كشف جديد بشأنها.
لقد دافع الذهبي في كل كتبه، المؤكّد ثبوتها عنه، عن شيخ الإسلام، وعلمنا من نقل ابن رجب الحنبلي، رحمه الله، أنه أرسل إلى أحد مناوئيه، وهو تقي الدين السبكي (ت756هـ) رسالة يعاتبه فيها على كلامه الذي صدر عنه في أبي العباس، وكان كلام السبكي ممّا يُذكّر بقول الشاعر:
وشمائل شهد العدو بفضلهاوالفضل ما شهدت به الأعداء (1) ولو عُرف عن الذهبي أنه كان يصرّح في مجالسه الخاصة، أو العامة، بغير مارأيت من كلامه السابق عنه لتلقّفته الشافعية سريعاً، ولبلغ ذلك عبدالوهاب السبكي فكان ذلك سبباً في تخفيف سلاطة لسانه نحو شيخه الذهبي.
وإني لأعتب على المحقّق الفاضل الدكتور بشار عواد معروف ـ بارك الله في عمره ـ إذ يرى أن السبكي قد أسفَّ إسفافاً كثيراً، وأقذع في شتم الذهبي لما ذكره في (تاريخ الإسلام) في ترجمة أبي الحسن الأشعري (ت324هـ)، ولا يرى في «النصيحة» التي نُسِبَتْ إلى الذهبي، وصدَّقها هو، إلا نصحاً فيه لومٌ ونقدٌ وتقريعٌ لا عبرة بقول من أكبر الذهبي عن كتبها فهلاّ أجرى على الذهبي قسطاسه (1).!!
نقل ابن ناصر الدين الدمشقي، هذه المنظومة عن أبي عبد الله الذهبي يرثي بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
¥