وقد نقل قصة في ذلك، عن قلندري يقال له معتوق الباعشقي سكن بغداد وطعم مما أنفقه عليه المغول، قال: «روينا عن شخص من أصحابنا الصُّلحاء، ولم يكن بدمشق مفتٍ سواه يقال له الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن شبل المالكي، الجزري ثم البغدادي (وهو من قلندرية الحريرية مات سنة713هـ)، قال: توجهنا إلى زيارة الشيخ معتوق ـ وكلاهما ببغداد ـ مع فقيهين آخرين، وقالوا في طريقهم: كيف يأكل الشيخ معتوق مال صاحب الديوان (وهو موظف مغولي)، مع ما هو معلوم فيه من الشبهة والحرام؟
فلما وصلوا، قال: يا أولادي تقولون عني كذا وكذا، وأعاد الجميع ثم قال: ما لي حيلة، والله لو أطعموني خراج قحبة لأكلته!! فاستحيوا من هيبته واعتذروا كثيراً» (1).
وحكى خبر أحد الرفاعية يقال له ابن قليج الرفاعي (كان حياً سنة699هـ) كان من أمره أنه دخل النار أمام المغول فلما لم تضره أكرموه غاية الإكرام. وكان قد استغاث قائلاً: يا سرَّ سيدي تاج الدين (الرفاعي)!! وأنه أعطي مرسوماً من المغول، مضمونه أنه يكرم، وإن مات في مكان يموت أهل ذلك المكان، فكان كلما حلّ بموضع أكرم ثم سئل الرحيل (1).
وقد ذكرت لك آنفاً: أنه جرت لابن السَّرَّاج أمور لم يفصح عنها وذلك قبيل سنة 697هـ أوجبت انتقاله بما يشبه النفي إلى الأطراف بوظيفة قاضٍ على تلك الثغور، لكن المؤكد أن شخصاً أو أشخاصاً قد تسبّبوا في فراقه دمشق التي أحبها، وكتب مناقبها ما سأعرض له لاحقاً. وهذا أمر وارد في كل عصر ومصر. وقد نقل ابن السَّرَّاج قصة عن شيخه البدر بن جماعة، حكى فيها أنه كان في شبابه يؤذى من أناس عملوا على إبعاده عن دمشق (1).
استمع إلى كلامه الذي يحكي فيه خبر تأليفه كتابه (الالتماس): «وهذا الكتاب ألّفناه بدمشق حرسها الله تعالى، أوائل سنة سبع وتسعين وستمئة قبل تاريخ المحنة (1) بما يقارب عامين، وكان من أسباب تأليفنا لهذا الكتاب أن بعض المشايخ الراسخين أخبرنا بدنو فراق دمشق، فاقتضت المصلحة تأليفه لإعلامه لنا، وتحقّقنا من جهته العالية، وإشارته السامية، أن الخروج يكون إلى المناصب القاصية، والبقاع النائية، التي لا تصلح لصغرها لتلميذ يحتاج أن يشتغل علينا عشرين سنة، قولاً جزماً لا مبالغة (1)!!.
وذلك لسلوكنا طريقة وسلوك معاصرينا طريقة، ولذلك كنا بينهم عدة سنين، ولم نزاحمهم على المناصب، طلباً للسلامة في الدارين. مع أن الجهات الدينية لم تجعل إلا شبكة لحصول مثلنا، ومع ذلك يقدم الجهال علينا، ولكنّا بحمد الله تعالى موعودون من الجهة الصادقة بالتمكين المغبوط، والناموس المضبوط، المتكفل بأضعاف الرضا، الجابر بأقله كل كسر مضى، وإنما نحن وأمثالنا مما هو من حجج الله على عباده.
ومن فوائد هذا التأليف؛ أنَّا التمسنا فيه كتابة رؤساء العلماء، وكبراء الفضلاء بالأهلية للتدريسوالإعادة واستحقاق التصدير بجامع دمشق للاشتغال والإفادة
وكان التصدير قبله واقعاً بسنين عديدة تبرعاً، إذ لا نحتاج توجهاً ولا تجوّهاً (1)، وإنما لتكون كتابتهم حج، ة وعضداً ظاهراً لما نبديه في بلاد نسكنها، ونهدي له ونرشد إلى سبيله، من طريق صلاح الدارين.
وأن يُعرف لنا ذلك إذ لا بدَّ منه عقلاً ونقلاً، فكتبوا وأحسنوا وابتدأهم شيخنا جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن واصل الشافعي قاضي القضاة بحماة المحروسة، وختمهم شيخنا نجم الدين أبو العباس أحمدبن محسن بن ملي الأنصاري الشافعي مفيد حلب المحروسة أخيراً بعد دمشق المحروسة وناهيك بهما إمامين عظيمين، وإن لم يعرف قدرهما كثير من الخلق .. » (1).
ونجد في مقدمة كتابه هذه العبارات: « ... وبلغ فينا الحسود آماله، ونال منا العنيد مناله، وظنوا في أنفسهم أنا خسرنا وهم وقد ربحوا، ولم يعلموا أنا بحمد الله قد أفلحنا وهم لم يفلحوا .. » (1).
وفي موضع آخر: « .. لم نزاحمهم على المناصب العلمية في الدنيا وإن كنا أقدر ( .. ) (1)،ولاتغتر بشهرتهم دوننا، ولابرفعة مرتبتهم الدنياوية .. » (1)
¥