تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد نقل لنا تلميذ ابن تيمية العلامة عمر بن علي البزار (ت749هـ) تفصيلاً لهذه التهمة، وذلك أن الناصر المملوكي سأل شيخ الإسلام حين اجتمع به قائلاً: «إنني أُخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك»، فما كان من أبي العباس إلاّ أن قال بصوت عالٍ غير مكترث به: «أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فِلْسين». فتبسم الناصر، وعلم صدقه، وكذّب من وشى به إليه (1).

أما وصفه فتاوى الإمام المجتهد ابن تيمية بالخبيثة فردٍّ عليه، ولَهَوَ وكتابه بالخبث أولى، وأمّا أنه بثَّها شرقاً وغرباً فذلك صدق أطبقت عليه المصادر، وقد جعل الله في الذي بثَّه منها خيراً كثيراً.

ثم قال: « ... وبالجملة؛ هذا مخطىء في هذه الإطلاقات، والتلفظ بالألفاظ المستهجنة المستقبحة، التي هي عند كل عارف جامع للعلوم الشرعية والعقلية، وغير ذلك مما تعرفه الفضلاء، وتبحث عنه النبلاء.

ثم اعلم أنَّا رأيناه يسمع الكرامة، وتثبت عنده اضطراراً لموجبات، فيغتم لذلك عظيماً، ثم تحمله النفس الحاسدة، والطبيعة الكدرة المتكبرة كثيراً المتكبرة كبيراً (كذا)، فيأخذ في إبطالها بوجوه الضلال، فإذا عجز أخذ في قدح النقل مهما أمكنه، وإذا سمع القوادح أعجبته وطرب لها، وقرّب الناقل وأكرمه، حتى إن بعض المتفرجين فيه، الضاحكين منه، يحكون له كرامات يتحققونها، ثم يقولون: الله أعلم إن هذه من أفعال الشياطين.

فيقول: أحسنتم أنتم على مذهبي واعتقادي، ثم يضمُّ القائل إلى صدره ويقبِّل رأسه أو غيره إظهاراً لترجحه عنده، فيقضون منه العجب. ثم إنه قال: أنا أقدح المبطلين، فجعل لذلك الأكثر مبطلين بمغالبته واجتهاده الخارج.

ثم ترقّى إلى أن يقدح الأكابر، مثل مشايخ الرسالة القشيرية ـ رضي الله عنهم ـ ومن هو أكبر منهم ممن قد حصل الإجماع على ولايتهم، وأنهم كأنبياء بني إسرائيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام بغير شك ولا مرية بين الأمة إلا عند من قد أضله الله وطمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة. فإنا لله وإنا إليه راجعون» (1).

وقال: « ... ولا تكن كالجهلة أو المتجاهلين الذين يصل أحدهم إلى مسألة الله أعلم كيف وصل إليها فيعتقد أنه العالم الراسخ، والجبل الشامخ، ثم يأخذ في قدح العلوم وأهلها، ويأخذ في سبيل حزن الأمور وتجنب سهلها ظناً منه أن ذلك هو الدين وأن إنكار المعارف زينة العارفين. كلا والله بل طمس الله على قلبه وأعمى بصره وذهب بلبه، فصار عدو الحقائق آتياً بما ليس بلائق، خسر الدنيا والآخرة، وفاز بالكرّة الخاسرة.

قد حرم طريق العلم الواضح، ومنح الحظ الخسيس الفاضح، عكس الولي الناصح، واللبيب الراجح، الفائز بالرأي الصالح .. » (1).

وقال وهو يتحدث عن منكري (الكرامات): « ... ولكنهم في هذا الزمان لهم بعض العذر، وسببه أنه قد ظهر في العالم من يقدح الأولياء، ويهدر الأصفياء، ويستهتر بالصلحاء، ويستهزىء بالأتقياء، ويضع من أقدارهم، ويقلّل من أنصارهم، وينكر تعصباً ما لا ينكر عليهم، وينسب كل قبيح وشنيع إليهم، ويجعل أحوالهم إذا صدق بها شيطانية، وإذا لم يصدق بها زورية هذيانية، وإذا كذب بها كفرية بهتانية.

وليس قصده في ذلك إلا إثبات نفسه الخسيسة، وأنه مختص بالفضائل الفائقة، والمزايا النفيسة. يقدح العلماء حتى يصل إلى الصحابة، ويغلّط الفضلاء حتى جليل الأهل والقرابة، ومن رآه قد تقدم عليه بفضيلة يجتهد على قذفه بكل سخيفة، ورميه بكل عليلة.

وقد ألّف في ذلك ومثله مؤلَّفات، وصنّف في شبهه ومقاربه مصنَّفات، وبثَّها في البلاد، وأفسد بها عقائد العباد، وفرّق كلمتهم، وضلّل دعوتهم، وتحمّل في ذلك إثماً كبيراً، وأحدث بين الناس خلفاً كثيراً، افتياتاً على الله وعلى عباده، وإعانة للشيطان على كيده وعناده، عجّل الله خلاص الإسلام منه ومن أمثاله، وأسرع بفكاك الإيمان منه ومن أشكاله آمين» (1).

ولما عرض لمسألة حياة أوليائه في قبورهم، كحياتهم الدنيا، قال: « ... وذلك مما ثبت عندنا وهو من دلائل أنهم أحياء الدارين، عكس ما قد صَمَّم عليه فضلاء زماننا»، ثم قال: « .. وكان ذكره قد شاع بين الخلائق بكثرة خلفه وتنوع جداله، وتنقيته المسائل الخلافية، واشتغاله وإشغاله بها. هذا مع ما يجري له في غضون ذلك في مجالس لا نرتضيها نحن لغلام له أو صغير بين يديه». ثم ذكر أنه كان عكس هذا أولاً وأردف ذلك بدعاء له الله أعلم بنيّته فيه، قال: «عافاه الله تعالى وإيّانا وسائر المسلمين» (1).

وعند ذكره شيخ أشياخه: الحيدري صلطوق (ت697هـ) أورد عجيبة من عجائب الخلق، فقد قال: « ... وكان أشقر اللون، رَبع القامة، أكثر نظره إلى السماء، أشبه الناس صورة بأخينا في السن وخدمة العلم، الشيخ العلامة تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، لا يخالفه إلا بشقرته، أي ظاهراً، ولنا باطناً، فإنه كله خلافه لشيء قُدّر عليه، وحرمان كلي وصل إليه.

ولو كان على اعتقادنا في هؤلاء السادة، لحظي بعظيم السيادة، ونال جميع السعادة، وإنما يقال: محروم الارتفاع، ولو وفقه الله تعالى لسلك سبيل الاتضاع، فإنه طلب التقدم فدحض الأول والآخر، ورام التكبر فقلت: من الساخر إلى الساحر (1)، نسأل الله أن يسلك بنا سبيله، وأن يجنبنا نيته وفعله وتبلبله، فما أحسن من نظر نفسه صغيراً ورأى كلاً من العالم كبيراً حقيقاً. فضيلة ذلك من طرق كثيرة وأعظم كتاب لا يغادره صغيرة ولا كبيرة. فثق بما نقول يكون (1) الله معك والرسول».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير