ومنهج الذهبي في العدل في وصف الآخرين، منهج علمي دقيق، وهو منهج أهل السنة والجماعة في أحكامهم على غيرهم، وهو نابع من قوله تعالى: ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85) والآيات المشابهة لها.
ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي، وأن يتقي الله-عز وجل- في وصف غيره، ويتكلم بعدل وإنصاف.
* القاعدة الخامسة:
العبرة بكثرة الفضائل:
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، فمن غلبت فضائله هفواته، اغتفر له ذلك.
يقول ابن رجب الحنبلي: "والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه"
وكلمة ابن رجب بمثابة منهج صحيح في الحكم على الشخص الواحد، لأن كل إنسان لا يسلم من الخطأ، ومن قل خطأه وكثر صوابه، فهو على خير كثير.
ومنهج السلف هو: اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ، والنظر إليه بعين الإنصاف.
يقول الحافظ الذهبي: (ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن) (انظر سير أعلام النبلاء 20/ 46)
وقال الذهبي في ترجمة ابن حزم: (وصنف في ذلك - نفْي القياس -كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار) (نفس المرجع 18/ 186 - 187)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة لطيفة: (ولكن كثير من الناس من يرى المثالب، ويعمى عن المناقب، وفي ذلك يقول الشعبي -رحمه الله-: "والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة، وأخطأت مرة، لأعدوا على تلك الواحدة" (نفس المصدر 4/ 308)
وقد قيل: كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
يمكن أن تعتبر قاعدة مهمة في هذا الباب، يقول فيها: العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية) (انظر منهاج السنة النبوية 8/ 412)
ومن نفيس كلامه في هذا الباب قوله: "وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذه طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان" (الفتاوى 10/ 366)
"ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر" (الفتاوى 15/ 294)
"من سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، وأحبه وولاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم" (منهاج السنة النبوية 4/ 543)
* القاعدة السادسة:
العدل في المفاضلة بين الناس:
والأصل في هذه القاعدة قول الله تعالى: ((إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات 13] وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" (أخرجه البخاري برقم 3353 و4689 ومسلم 4/ 1846)
والتفضيل بين الناس يكون على وجهين:
1 - تفضيل مطلق.
2 - وتفضيل مقيد.
أما التفضيل المطلق بين الناس فيكون على أساس التقوى، وقوة الإيمان - ولنا الظاهر والله يتولى السرائر - فمن ظهر لنا أنه على تقوى أعظم من غيره كان أحب إلينا.
¥