ويزيد ذلك إيضاحاً للجاهل والعارف: الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) فهذا أوضح جداً لأن هؤلاء الذين خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم بخلاف من لم يطلبه، بل قال الله فيمن هذه صفته: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).
فمن فهم هذا الموضع والموضع الذي قبله، فهم كلام الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلوب، وصدّقته الأعمال، وذلك أن الله تعالى يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
الموضع السادس:
[قصة الردة، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم]:
فمن سمعها لم يبق في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين الذين يسمون " العلماء " وهي قولهم: هذا هو الشرك، لكن يقولون: لا إله إلا الله، ومن قالها لا يكفر بشيء! وأعظم من ذلك وأكبر تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة، لكن يقولون: لا إله إلا الله، وهم بهذه الشهادة أهل إسلام، حرم الإسلام مالهم ودمهم، مع إقرارهم أنهم تركوا الإسلام كله، ومع علمهم بإنكارهم البعث واستهزائهم بمن أقرّ به، واستهزائهم بالشرائع وتفضيلهم دين آباءهم المخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا كله يصرح هؤلاء الشياطين المردة الجهلة: أن البدو أهل إسلام، ولو جرى منهم ذلك كله، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، (ولازم قولهم أن اليهود أسلموا لأنهم يقولونها)، وأيضاً كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة، أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا، والذي يبين ذلك من قصة الرّدّة، أن المرتدين افترقوا في ردّتهم، فمنهم من كذّب النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى عبادة الأوثان، وقالوا: لو كان نبياً ما مات!، ومنهم من ثبت على الشهادتين، لكن أقرّ بنبوّة مسيلمة، ظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور، شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس، ومع هذا أجمع العلماء أنهم مرتدّون، ولو جهلوا (ذلك) ومن شكّ في ردّتهم فهو كافر.
فإذا عرفت أن العلماء أجمعوا على أن الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقرّ بنبوّة مسيلمة في حال واحدة، ولو ثبت على الإسلام كله.
ومنهم من أقرّ بالشهادتين، وصدق طليحة بن خويلد الأسدي في دعواه النبوّة، ومنهم من صدق عبّهلة بن كعب الأسود العنسي صاحب صنعاء فكل هؤلاء أجمع العلماء أنهم مرتدون.
ومنهم أنواع أخر، منهم الفجاءة السّلمي لما وفد على أبي بكر وذكر له أنه يريد قتال المرتدين وطلب من أبي بكر أن يمدّه، فأعطاه سلاحاً ورواحل، فاستعرض السّلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم، فجهز أبو بكر جيشاً لقتاله، فلما أحسّ بالجيش، قال لأميرهم: أنت أمير أبي بكر، وأنا أميره، ولم أكفر، فقال: إن كنت صادقاً فألق السّلاح فألقاه، فبعث به إلى أبي بكر، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي.
فإذا كان هذا حكم الصحابة في هذا الرجل، مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة، إلا أن يقول: لا إله إلا الله بلسانه مع تصريحه بتكذيب معناها، وتصريحه بالبراءة من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كتاب الله؟! ويقولون هذا دين الحضر وديننا دين آبائنا، ثم يفتون هؤلاء المردة الجهال: أن هؤلاء مسلمون! ولو صرحوا بذلك كله، إذا قالوا: لا إله إلا الله! سبحانك هذا بهتان عظيم.
وما أحسن ما قال رجل من أهل البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام، قال: أشهد أنا كفار- يعني هو وجميع البوادي - وأشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل إسلام أنه كافر!.
تم آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الإمام محمد بن عبد الوهاب