* و قبل أن نضع القلم نرى أن نلخص أهم حجج المرجفين من أهل التقليد, الذين يرددون في مثل هذا الموطن كلمة سفيان بن عيينة: (الحديث مضلة إلا للفقهاء). دون أن يفهموا معناها ومراده بها إن صحت ثم يكونون أول من يخالفها , فيحتجون بالحديث كيفما كان ,اتفق يحرفون الكلم عن مواضعه, يرمون ستر الشمس بالغربال, وإطفاء نور الله بأفواههم (والله متمّ نوره ولو كره الكافرون).
-والذي يستحق النظر من شبههم ثلاث:
1) - قول الله تعالى {وقال الذين غلبوا على أمرهم لنّتخذن عليهم مسجدا}.
2) -الحديث الصحيح المشهور (…وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).
3) -عمل الأمة- في زعمهم – منذ قرون على الصلاة في المشاهد والزوايا المبنية على القبور.
والجواب بغاية الإختصار عن هذه الشبه
* إن الآية الكريمة تحدثت عن غير شريعتنا, وقد قال تعالى {لكل جعلنا منكم شريعة ومنهاجا}. وعلى أن القول شرع من قبلنا شرع لنا: فإنه مقيد بشرط عدم المخالفة, والإسلام واضح في تحريم هذا الأمر ولعن فاعله, وأول من أثار الاستدلال بهذه الآية في المغرب الشيخ عبد الحي الكتاني وهو من شيوخ الزوايا وسدنة القبور, ثم تبعه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري الطنجي في كتابه (إحياء القبور) وهو من شيوخ الطرق وأصحاب الزوايا, وكنت ناقشته في الاستدلال بالآية, فصرح لي بأن وجه الاستدلال بها: أن الله تعالى سكت عن المتخذين عليهم مسجد, ولم ينكر عليهم, وقد جرت عادته سبحانه أن ينكر المنكر, وليس الأمر كما قال, فإن الله تعالى ذكر في معرض المدح والإمتنان , عمل الجن محاريب وتماثيل لسليمان عليه السلام ولم يتعقبه بإنكار , فهل دل ذلك على إباحة صنع التماثيل المحرمة في شريعة الإسلام, وفي القرآن نظائر لهذه المسائل.
* أما حديث: ( ... جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).
فلا نزاع في أن عمومه مخصص بما يعلم ضرورة من دين الإسلام أنه مستثنى كالحشوش, والمجزرة, والحمّام, وغيرها من البقاع النجسة, فيجب –كذلك –أن يخصص عمومه بالمقبرة للأدلة الصحيحة الصريحة المتواترة معنويا.
أما الإجماع المزعوم فلا عبرة به, وهو مقابل بمثله, ولا يعرف عن أتباع المذاهب الثلاثة: الحنفية والشافعية والحنابلة, ما عرف عن متأخري المالكية من التساهل في اتخاذ القبور مساجد, بل والغلو في ذلك مما يدخلهم –وهم يعلمون – تحت طائلة التهديد النبوي باللعن , وأنهم شرار الخلق والعياذ بالله , والملاحظ أن متقدميهم كانوا يكرهون ذلك , وخصوصا الحنابلة الذين هم أسعد الناس باتباع الهدي النبوي في هذا الموضوع , فهم مطبقون على التحريم وبطلان الصلاة في المقبرة.
- هذا جوابنا باختصار, وقد تكفل العلماء وخصوصا شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وتلاميذهم: كالذهبي, وابن كثير, ومن بعدهم كابن رجب الحنبلي, وأئمة الدعوة السلفية, بردّ شبهات الخلفيين الطالحين وكشف دعاويهم.
ومن أخطر ما ابتلي به المسلمون في هذا العصر كما قال شيخنا ناصر الدين الألباني: كتيب ابن الصديق المشار إليه آنفا فإنه غلا فيه غلوا لم يسبق إليه, وتفنن في التحريف والتلبيس وإيراد الشبه مموهة ومزخرفة, فكان منها, أن حكم على حديث أبي الهياج الأسدي بالبطلان, مع أنه في صحيح مسلم , أو بأنه مؤول.
ولما كان من عادة الله تعالى أن يكشف المبطلين, ويوقعهم في التناقض الصارخ, فإنه بعد أن قال ما قال في إحياء مقبوره, ناقض نفسه , فعقد بابا في رسالته (الاستنفار, لغزو التشبه بالكفار) في تحريم اتخاذ القبور مساجد, لما فيه من التشبه بالكفار. ومما غلا به في كتيبه الإحياء المذكور: أنه صرح أن الصلاة في المساجد والزوايا المبنية على القبور, أفضل من الصلاة في غيرها, لما في الأولى من فضيلة التأسي و الاقتداء بالمسجد النبوي, فهل سمعت بمن يكيد للإسلام كهذا الكيد, وقد ردّ شيخنا الألباني في (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) كثيرا من الشبه التي أوردها ابن الصديق.
- ثم بعد نحو خمسين سنة من صدور كتيب (إحياء المقبور) طبع شقيق مؤلفه ,وهو الشيخ عبد الله بعد تسريحه من السجن وقدومه المغرب مدخول العقل, مضطرب التفكير, رسالة سماها (إعلام الساجد, بمعنى اتخاذ القبور مساجد). زعم فيها بكل جرأة ووقاحة, أن تلك الأحاديث المتواترة كلها لا عمل عليها لمخالفتها الواقع, وهو أن اليهود والنصارى لا يبنون معابدهم على القبور , فكان كلامه هذا تكذيبا صريحا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتعاميا على الواقع الملموس, وهو أن الكنائس القديمة في العالم الأوروبي معظمها مبني على قبور القديسين, وهو يعرف هذا {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وسائر الرسالة (إعلام الساجد) ترديد في رسالة شقيقه (إحياء المقبور).
- و نعوذ بالله من علم لا ينفع , ودعاء لا يسمع , وقلب لا يخشع , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وصلى الله و سلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين , والحمد لله رب العالمين.
¥