تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفى الوقت الذى كان فيه ذوو المناصب لا يحفلون بأمر الدين ولا يخلصون له، وكما يقول الراهب جروم " إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزرى بترف الأمراء والأغنياء المترفين، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطا عظيما واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع وقد تباع بالمزاد العلنى، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات حل المحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون، وقد بذروا المال تبذيرا، حتى اضطر البابا "أنوسنت الثامن" أن يرهن البابوية، ويذكر عن البابا "ليو العاشر" أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال، وأنفق نصيبه ودخله، وأخذ إيراد خليفته المرتقب سلفا، وأنفقه، ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفى البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم" ().

فى هذا الوقت كان آخرون يتيهون بالرهبانية وسيلة للخلاص من رجس الماديات وتخطى ولعهم بها حدود كل قياس، ولا يعتنقونها مزاجا شخصيا، بل يدعون إليها كشعيرة دينية، ولم يكتفوا بأن يكون سلوكها طوعا، بل " كان الرهبان يتجولون فى البلاد ويختطفون الأطفال، ويهربونهم إلى الصحراء والأديرة، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم، ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا " ()، وقد ترسخ فى الأذهان فكرة أن المعاناة تعظيم لشأن البشر، وتغيير لهم، حتى كانت مصدر إلهام ومواساة لملايين التعساء.

ولم يترك المتسلطون هذه المحنة دون أن يجنوا ثمراتها، فأشعروا المسيحيين أن من واجبهم احتمال الاضطهاد والظلم " إذ أن الله - حسب قيمهم - يساند نظاما هرميا يجلس الغنى فيه فى قصره بينما ينتظر الفقير عند الباب، حتى إن المعاناة والاضطهاد فى الدنيا سيكون لهما أجرهما فى الآخرة " ()

ومن المنطقى فى ظل هذا كله أن يترسخ فى عقيدة القوم الإيمان بالحق المطلق للسلطة وبالتفاوت الطبقى، والرضا بعدم المساواة، والرغبة فى المعاناة، وتحجر المشاعر، والقسوة، والزهد فى البناء، أى بناء، فهم " لا يرون النجاح الدنيوى انتصارا روحيا " () وقد اتخذوا الرهبنة عوضاً عن الشهادة.

ومن المنطقى أيضا فى ظل التسلط والقهر أن تنزوى العدالة، بل تغيب شمسها تماما، وأن لا يسعى الحاكمون إلى وضع قوانين تقيدهم، ومع إيمان المحكومين بحق الحاكم والتلذذ بالمعاناة لن يكون هناك من يطالب بها حتى لا يعارض ترتيب الله. وما دام السلطان – كما قال بولس – خادم الله منتقم للغضب، فهو ينبوع العدل، وكل ما يرضيه له قوة القانون () حتى وإن خالف قوانين الإيمان لأن إرادته هى القانون" ().

عذابات الغرب والهجمة على الإسلام.

والغريب أن القوم إذ جاءهم ما يحييهم – وقد حدث فعلا كما سنرى – أسقطوا عذاباتهم وسوءاتهم الخاصة عليه، لأنهم بالاستعلاء المتوهم يستنكفون أن يعترفوا – مع أنهم أهل الاعتراف – بما يخلص نفوسهم، حتى كان أحفاد رب البيت – ورب البيت أعلم بما فيه – فكشفوا لنا عن مغزى وحقيقة الهجمة على الإسلام المعلم فى العصر الوسيط، تكشف لنا السيدة كارين ارمسترونج هذه الحقيقة فى غير موضع من كتابها " سيرة النبى محمد " فتقول تعليقا على " أسطورة ما هاوند ": -

" وبعض تفاصيل هذا الوهم تعكس بواعث قلق المسيحيين على هويتهم التى كانت قد بدأت تظهر، فالوصمة النى ألحقوها بالإسلام باعتباره " دين السيف " نشأت فى إبان الحملات الصليبية، وهى فترة لابد أن المسيحيين فيها أحسوا بقلق دفين إزاء الصورة العدوانية التى اتخذتها عقيدتهم، وهى صورة لا علاقة لها برسالة الدعوة إلى السلم التى جاء بها المسيح.

وفى الوقت الذى كانت الكنسية تفرض على رجال الدين الامتناع عن الزواج، على رغبتهم فيه وحرصهم عليه، كانت الرواية المدهشة الغريبة عن الحياة الجنسية للنبى محمد تنم عن ألوان الكبت التى يكابدها المسيحيون أكثر مما تتعلق بأية حقائق عن حياة النبى الشخصية.

ولاشك أن الصورة التى رسموها للإسلام كانت تتضمن حسدا ظاهرا، إذ كانوا يصورونه فى صورة دين المتعة والتيسير.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير