لم يفعلوها مع الإسلام فحسب، بل فعلوها مع كل من أنار لهم طريقا، أو مد لهم يدا، أو فك عنهم قيدا () لينتهوا إلى " أن التاريخ برمته هو تاريخ أوربى، وينتمى إلى العرق الأبيض " () " فاستملاك الماضى هو جزء من سياسة الحاضر " ().
فقد تربى أجدادهم على نتاج المصريين والفينقيين والبابليين وغيرهم ومع ذلك أعطوا للرومانى الحق أن ينظر إلى هذه الشعوب باعتبارها شعوبا لا تحتل سوى مرتبة دنيا من مراتب الحضارة، ومتى فرضت روما جنسيتها وقانونها على المستعمرين فهذه سماحة، وفرصة لخلق حياة متمدينة منظمة رخية ().
وفى موضوعنا يتصور بعض الغرب أنه بجرة قلم يمكن طمس الحقائق، وقلب البدهيات.
وبالنظر إلى الكشف عن مدونة جوستنيان تستوقفنا المماحكات التالية:
1 - أن الإمبراطورية السفلى والتى امتدت حتى موت جوستنيان صاحب المدونة شهدت انقسام الإمبراطورية إلى قسمين شرقية وعاصمتها بيزنطة
" القسطنطينية " وغربية تنقلت عاصمتها بين روما وميلانو ورافنا.
وبينما سقطت الإمبراطورية الغربية نهائيا عام 476 م فى يد القبائل الجرمانية التى خلعت آخر أباطرة الرومان، فإن الإمبراطورية الشرقية ظلت قائمة حتى سقطت القسطنطينية عام 1453 م فى يد الأتراك المسلمين.
وعلى ما يروى المؤرخون فإن الجرمانيين البربر لم يمحوا المدنية الرومانية فى الغرب، وإنما أبقوا على كثير من نواحى هذه المدنية () ويصدق هذا فى خصوص القانون تلك المقولة الشهيرة " تحيا الكنيسة بالقانون الرومانى " ().
وعلى فرض محو هذه المدنية فإن مدنية الشرق الرومانية ظلت قائمة حتى القرن الخامس عشر، ولابد أن يكون القانون الرومانى قائما ضمن ما هو قائم () بل إن بعض مزاعم القوم فى تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الرومانى تفيد أن من مصادره ما كان عن طريق الثقافة السريانية التى عنيت ضمن ما عنيت بترجمة المؤلفات القانونية الرومانية ومن أشهرها الكتاب السورى الرومانى المنسوب إلى الأباطرة قسطنطين وتيودوز وليون، ومجموعة المختارات للإمبراطور ليون الثالث وقد وضعت بالإغريقية عام 750 م، واعتمدت على مجموعات جوستنيان مع تطعيمها ببعض المبادئ المسيحية ().
ومؤدى هذا كله أن القانون الرومانى لم يكن غائبا حتى تكشف عنه مدونة جوستنيان التى عثر عليها بعد غياب طال، ولم يعد يقبل فى ضوء هذه الوقائع التاريخية – إن صدقت – التمحك بفقدان أوربا الكثير من تراث روما، وبخاصة تقاليد القانون الرومانى، حتى يكون اكتشاف هذا التراث مع نقل التقاليد اليونانية القديمة هو ما أنتج نهضة أوربا وفجر الطاقة والابتكار فى كل مجالات النشاط الفكرى، وكان ذلك – كما يدعون " واضحا فى القانون والفلسفة واللاهوت والبحث العلمى " ().
2 - أن الرجال الذين أعادوا إلى المدونة حياتها الفاعلة هم مجموعة من الرهبان منهم أورنريس، وجراتيان، والفرنسى بيتر أبيلار ()، ووليم كونشوس، وثيرى أوف شارترس وغيرهم.
وعلى ما يذكر توبى هاف نفسه فإن هذه الصفوة من فلاسفة اللاهوت قد عبرت عن نفسها فى روح جديدة من العقل وملامح العقلانية التى شرعت تفرض النظام فى كل مجال، وتسود كل مظاهر الحياة الفكرية، كما لو كان مفكروا العصر قد وضعوا على أعينهم منظارا من العقلانية ().
ولنا الحق أن نتساءل هل الأثر كان للمدونة، أم للتكوين الفكرى للأعين التى أعادت قراءة المدونة؟ وأى ثقافة تلك هى التى وضعت عليها منظارا من العقلانية؟
إننا نرفض أن تكون المدونة هى الباعث، لأن القانون الرومانى القائم قبل هذا التاريخ على أساس من المدونة أو من مصادرها لم يحقق هذا البعث من قبل، بل إن أساتذة التأريخ يذكرون أن عصر الإمبراطورية السفلى – عصر صدور المدونة – يعد الأفقر من حيث النشاط الفقهى () وأن جوستنيان كان يسعى إلى تحريم التعليق على مجموعاته، ولم يسمح إلا بالترجمة الحرفية لها، أو باختصار بعض أجزائها ().
ولا يعقل أن يكون التكوين الفكرى الكنسى هو الذى وضع منظارا من العقلانية على أعين الرهبان، إذا لو كان فما الذى حال بينهم وبين التجديد طيلة التاريخ السابق؟ لقد أثارت هذه المفارقة بعض أساتذتنا فعلقوا على تفسيرات
¥