لا ينكر إلا مغالط أن الإسلام - وله قواعده فى تنظيم الحياة والسلوك فى المجتمع - قد أحاط - دينا ودولة - بأوروبا يقينا، بل إنه فى خضم الصدام العسكرى كانت الصلات الأوروبية الفكرية والتجارية بالأقطار المسلمة – فى الشرق والغرب على السواء - فى أوجها "ومن أجل إدارة الصراع بنجاح مع عقيدة هذا المنافس الخصم القوى والخطير لابد من دراسته " ().
والغرب وإن أظهر مقتا وازدراء بالإسلام فذاك كما قالت السيدة / كارين أرمسترونج انعكاس لبواعث قلق الأوروبيين على هويتهم التى ظهرت، وتعبير عن ألوان الكبت التى يكابدونها، وباختصار فإن الخوف المرضى من الإسلام هو التعبير الساطع عن هجمة الغرب. ().
وبصرف النظر عن كون حملة مشاعل النهضة من تلامذة المسلمين النجباء فإن الإرث الإسلامى فى البلاد التى غابت عنها شمس القيادة المسلمة كان من الصلابة والقوة والاحترام بما لا يمكن إغفاله فى تكوين القانون.
وقد عرضنا لطرف من ذلك فيما سبق، ونعرض هنا لطرف آخر، هو بالتأكيد الأساس التاريخى المنطقى للثورة القانونية.
حضارة الأندلس ودورها فى النهضة:
ظلت الأندلس تحت الحكم الإسلامى قرابة ثمانية قرون كاملة تغير فيها وجه الحياة تماما، وكما قيل بحق لم يعرف لها عصر ذهبى فى تاريخها كله غير هذا الذى رأته فى أيام الدولة الإسلامية الزاهرة " ولقد عمت الحرية فى هذا العهد أقاليم أسبانيا المسيحية نفسها، قبل أوروبا الشمالية بزمن طويل، واستقلت بتنظيم أمورها المالية، وجعلت الملك أو الأمير بمقام رتبته العسكرية وأصبحت المقاطعات كالجمهوريات الصغيرة التى يتولاها حكامها المنتخبون، وكان المتطوعون فى المدن قدوة مثلى للجيوش الديمقراطية.
وكانت الكنيسة المسيحية وهى على اتصال بالشعب تعيش بسلام فى حوار الأديان المختلفة، ونجمت فى الأمة طبقة وسطى فعالة، وأنشئت على السواحل أعظم قوة بحرية فى زمانها، وراجت المنتجات الأسبانية فى جميع المرافىء الأوربية، وقامت فى البلاد مدن تضارع فى تعداد سكانها الحواضر الحديثة، واختصت بعض القرى بمعامل النسيج ............ وإن الطابع الأسبانى لأبرز فى عصر النهضة من الطابع الإيطالى " ().
فلا يتصور مطلقا أن تنمحى سلوكيات وقيم مجتمع بمجرد تغير قياداته، كما لا يتصور أن تستغنى القيادات الجديدة – وقد خبرت الإسلام، وعرفت قوته – بالناشئة عن الخبراء المتمرسين، وقد ضربنا لذلك مثالا ببيتروس ألفونصص، وعلينا أن نتذكر أيضا أن أوربا الكنسية كانت تجبر اليهود والمسلمين على التنصر والتسمى بأسماء مسيحية، لذا لا مانع من أن يكون الملاحظون للحقيقة التاريخية فى هذه الثورة ممن هم مسيحيون بالاسم ().
دور الصقالبة فى النهضة القانونية الأوربية:
على أن واقعا تاريخياً مرعياً فى سياسة الدولة الأندلسية ينبغى أن يوضع فى عليين، لما يتصور من أثره فى النهضة عموماً، وفى رقى النظم خصوصاً.
فقد دأبت سياسة الأمويين فى الأندلس على اصطناع الموالى والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة دون أهل العصبة من العرب، استرابة فى الآخرين ومكافأة للأولين ابتداء، وأمن جانبهم من بعد.
" وقد كانت كلمة " الصقالبة " تطلق فى الأندلس على الأسرى والخصيان من الأجناس السلافية الحقيقية، ثم غدت تطلق بمضى الزمن على جميع الأجانب الذين يخدمون فى البطانة وفى القصر، وكان أولئك الصقالبة مزيجاً من النصارى الأسبان والألمان والفرنسيين واللومبارديين والإيطاليين وكان معظمهم يؤتى بهم أطفالاً بواسطة القراصنة وتجار الرقيق، وكانوا يختارون من الجنسين ويربون منذ الحداثة تربية حسنة، ويلقنون مبادئ الإسلام، وقد نبغ بعضهم فى النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد.
¥