تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والصناعة تعنى القواعد التى يتوسل بها المجتهد – المقنن – لوضع الفروع، وهى تقتضى إحاطة بالأدلة ودرجاتها، مع ملكة قادرة على التحليل والتأويل والتعليل والنقد والتقعيد، ولا تحصل طبعا إلا بدراسة ومكابدة، وينظم الصناعة عندنا ما اصطلح على تسميته بأصول الفقه.

والسؤال الذى نحاول الإجابة عليه ماذا أخذ العرب عنا؟ هل أخذ الصناعة أم العلم أم كليهما؟

الرأى عندى أنه أخذ كليهما ()، وقد عرضنا للمنهج -الفن- فى تحليلنا لمنهج بيتر أبيلار عميد هذه الثورة، ورأينا عمق التشابه بينه وبين الغزالى، ونعرض هنا للمادة ().

المطلب الأول

الحقيقة المثالية

لسنا نشك أن الغرب أخذ عن المسلمين المثال الأعلى للعدل، وقناعتنا هنا لا نسندها إلى إيماننا الواعى بأن الوحى " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "، فتلك حقيقة لا يسلم بها الخصوم، ولكننا نبنيها على اعترافات الغربيين أنفسهم أن "أوروبا كانت تبدو آنذاك بربرية همجية وثنية، ولا شك أنها متخلفة بأشواط طويلة عن سائر العالم المتحضر " ().

وفى ظل مسيحية بولس الملطخة بالوثنية والجهل تكرس الإيمان بعدم المساواة لا بين المسيحيين وغير المسيحيين () فحسب، بل بين المسيحيين أنفسهم، ففى تقاليدهم سلبية شديدة إزاء المرأة " ().

وفيها أن الفوارق الطبقية قدر محتوم لأن "الله يساند نظاما هرميا يجلس الغنى فيه فى قصره، بينما ينتظر الفقير عند الباب" ().

والظلم والمعاناة مدخل إلى الخلاص، فمسيحيتهم تمثل ديانة المعاناة والمحن بامتياز، وكانت فى أحسن أوقاتها فى الغرب فى أوقات المحن " ().

وأصل العقيدة أن الآدمى يولد على الخطيئة، ومنها وبها اتسمت مسيحية الغرب " برؤيا تشاؤمية للعالم الطبيعى، بسبب الاعتقاد بأنه انتكس، وفقد كماله الأول نتيجة لخطيئة الإنسان، ومن ثم فهى ترى الموت والألم والأحزان عقوبات للإنسان على سقوطه الأول " ().

ولا نظن أحدا ينازعنا الرأى أن المثال لا يخلو عن أن يكون خُلُقيا أو مصلحيا، ومظهر الخلق باد فيما سطرته أقلام الغرب ذاته، والمصلحة التى تتغياها حماية القانون استهجنها ابن العسال كما رأينا، وإن كانت ثمة مصلحة فهى فى تكريس الحق الإلهى، والاستعباد.

وعلى ذلك يتحتم على الباحث الذى يحترم عقله وفكره أن يبحث عن مادة للمثالية.

لا أتصور أن يكون الكتاب المنظور – الكون – لأن النظرة التشاؤمية للعالم الطبيعى تعمى عن المظهر " الإشراقى " () المفصح عن الحقائق العلوية، على الرغم من سبح الفلسفات العربية المترجمة فى فضاء هذا المظهر، لأن حداثة العهد بالحكمة تجعل من رؤية الومضة أمرا متعسرا.

ولا أراها كذلك فى الأدبيات والحكم، لأنها ذات دلالات جزئية على المثال الأسمى للعدل ().

إننى أراها فى القرآن الكريم والسنة المشرفة، والعارفون باللسان العربى -وهم كثر – اطلعوا عليهما مبكرا جدا كما تشير إلى ذلك شكوى " ألفارو " أسقف قرطبة فى عام 854 م ().

ومن جهلوا لغة القرآن واتتهم الفرصة فى القرن الحادى عشر وبدايات القرن الثانى عشر على الأكثر بعد أن ترجم بطرس المبجل (1059 - 1156) رئيس دير كلونى الآباتى القرآن الكريم، ومجموعة من الأحاديث النبوية بمعونة فريق عمل من بين أعضائه شخص يدعى " محمداً " ترجموها إلى اللاتينية. "ورغم الهنات الواضحة والأخطاء التى ارتكبت فى هذه الترجمة فإن هذه النسخة اللاتينية عدت إلى أواسط القرن السابع عشر للميلاد أكثر الترجمات الغربية انتشارا، وأقربها نسبيا إلى الإطار العام للقرآن الكريم" ().

والسر فى أن يكون الوحى لا الاجتهاد هو الدال على المثل السامى للعدل هو أن حقائق هذا المثل ومضامينه تتكرر فى القرآن الكريم - والسنة المشرفة - على نحو ملحوظ تماما ()، مع التعريض بل التصريح بانتهاكات الأمم السابقة لهذا المثل، وما حاق بهم من جراء ذلك.

ومع التكرار - الذى مله بعضهم لجهله- فإن العين إن أخطأها البصر فى موضع أدركها فى آخر.

وبطرس المبجل هو الزعيم المؤسس للدراسات الإسلامية لدى مسيحيى القرون الوسطى، وقد انطلق من حتمية الصراع مع الإسلام، ولكن ليس بالسيف، وإنما بالكلمة والإقناع والحجة () ولا شك أن الناقد بصير.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير