ومما يدلنا على أن هذا كان هو المنهج أعنى التدبر لاستخلاص ما يظنونه حجة على المسلمين ما ظهر فى محاورات " بيتروس ألفونصوص " وهى تبنى على كثير من الاستشهادات القرآنية وتقرر أن " الإسلام دين بسيط وسهل المنال، وهو مبنى على العقل، وقانونه ملائم للإنسان بصفة عامة، والقرآن يدين العنف والعدوان على الناس " وقد نقلنا آنفا عن بعض مفكرى الغرب مدى التقبل الذى حظيت به كتابات ألفونصوص هذا ().
وتوما الاكوينى ينتهى فى كتابه " الرد على الخوارج " إلى أن " محمداً أسس قواعده وأحكامه التشريعية التى تتناسب مع قدرات وإمكانات العقل المتوسط فحسب"، ويقول أليكسى جورافسكى " وبالمناسبة فإن توما الاكوينى لا يستخدم كلمة القرآن بتاتا، وإنما يحل محلها عبارة قوانين محمد " ().
ولمؤلف يدعى غليوم الطرابلسى كتابان أولهما: بعنوان " رسالة حول إمبراطورية أحفاد إسماعيل " والثانى بعنوان " محمد وكتاب شريعة المسلمين " وضعهما قبل العام 1271 م ().
ولريموند مارتن – أول من وضع قاموسا عربيا لاتينيا – كتاب بعنوان " خنجر الإيمان ضد المسلمين واليهود " وفيه تظهر سعة اطلاعه على القرآن والحديث وفلسفة الإسلام، وكان ذلك قبل العام 1286م ().
وصدق الله العظيم " كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين " ().
المطلب الثانى
الحقيقة العقلية
وهى كما ذكر العلامة جينى – حسب الشهرة – أهم الحقائق فى صناعة التشريع، وكما ذكر فإن النشاط العقلى المطلوب لا يقف عند الملاحظة والتجربة، بل يتعدى ذلك إلى جوهر الأشياء، بما لدى العقل من وسائل خاصة للمعرفة.
وعلى حد قول بيتر أبيلار – العلم الذى لا تخطئه العين كما يقولون – " فإن المعرفة هى فهم حقيقة الأشياء " وبيتر وزملاؤه إذ شرعوا فى بحوثهم العلمية والقانونية تحلوا – كما يقول توبى هاف " بروح جديدة من العقل وملامح العقلانية التى شرعت تفرض النظام فى كل مجال، وتسود كل مظاهر الحياة الفكرية، كما لو كان مفكروا العصر قد وضعوا على أعينهم منظارا من العقلانية" ().
وقد تعرفنا فيما سبق على أولئك النفر الذين حملوا مشاعل الثورة، وعرفنا مبلغ التأثير العربى الإسلامى فى تكوينهم، بل فى مناهج النظر التى ساروا عليها فى عملهم، ورأينا أنها لا تتشابه مع الاجتهاد الإسلامى فحسب، بل تتطابق معه، وأنها كما قال توبى هاف – " تتجاوز المستويات المنطقية المتوارثة من كل من اليونان والرومان" ().
ولسنا نسلم لألفريد جيوم بأنه " من العسير إن لم يكن من المستحيل أن نميز ثقافة قوم تسربت إليهم من ثقافات أخرى وتغلغلت فى ميادينها كما يصعب تمييز الماء العذب إذا انصب فى الملح الأجاج " () لأن آثار الحقيقة العقلية الإسلامية فى غربلة الوقائع والموروثات الكنسية لا تخطئها العين أبدا مهما غلفت اسما ورسما، أو بان فيها كثير من التحايل. ().
ويمكن أن نرصد بعض مظاهر الحقيقة العقلية العربية فيما يلى:
أولا: انتشار التعليم وتحديثه:
وقد ذكر توبى هاف نفسه أن الغرب كان يفتقر إلى تصور عن القانون بأحكامه وأفكاره، وقد أخفقت أوروبا أن تقيم تقاليد فكرية خارج نطاق الكنيسة، وعلى ما ذكر فإن ذلك تحقق فى القرن الثانى عشر وما بعده.
والحقيقة أن تاريخ العلم المدنى وتحديث المعارف أقدم من ذلك، إذ ما إن ارتقى تلميذ العرب الشهير البابا سلفستر الثانى كرسى البابوية عام 999م حتى أنشأ مدرستين للعلوم العربية، واحدة فى روما، وأخرى فى ريمس بألمانيا، وهو أول ناقل للأرقام العربية. ().
وفى القرن العاشر الميلادى كذلك أنشئت فى سالرنو، فى جنوب غرب إيطاليا على مبعدة أميال من روما، مدرسة للطب يدرس فيها أساتذة مسلمون أو مستقدمون من بلدان الإسلام. ()
وفى مستهل القرن الثالث عشر أنشئت عدة مدارس وجامعات للعناية بالعلوم العربية، يهمنا منها بوجه خاص جامعة نابولى لترجمة الكتب العربية وتدريسها، وقد أنشأها فردريك الثانى وأهداها من مقتنياته كتب الطب والفلسفة العربية ()
ولجامعة نابولى مكانة خاصة لأن ارتباطها بفردريك الثانى يثير جملة من الاحتمالات سنعود إليها لاحقا، كما أنشئت فى جنوة مدرسة لتعليم العربية، وفى مونبلييه بجنوب فرنسا كلية للطب نافست جامعة سالرنو، ومادة التعليم فى كليهما تعتمد على علوم العرب.
¥