ذكرنا قبلا أن الواقع والتاريخ الأوربيان فى العصر الوسيط لا يصلحان البتة أن يكونا نواة للثورة القانونية التى تنسب زورا إلى مفكرى الغرب فى هذا العصر.
وهذا فى الحقيقة إن صدق على قلب أوروبا الصغيرة المبتدئة، التى تعيش شعوبها فى الأكواخ، ويعتلى ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور فى القلاع المظلمة فإنه لا يصدق على تلك البقاع من أوروبا التى غمرها نور الإسلام وحضارته، كأسبانيا والبرتغال وصقلية، ومناطق متفرقة من إيطاليا وجنوب فرنسا وغيرها
وباعتراف الغربيين أنفسهم فإنه حيث يظهر الإسلام تتفجر المدنية والحضارة، ويعم السلوك القويم والخير الوفير () وسواء دان أهل البلاد المفتوحة بالإسلام أم بقوا على ديانتهم فإنهم إما معتنقى السلوك الإسلامى فى الحياة أو أسراه، فشعيرة المسلم "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين " () وغير المسلم فى ديار الإسلام تلجئه حريته واستقلاله إلى استحسان سلوك الإسلام، أو يولعه غلبه إلى تقليد الغالب.
هذا قانون أثبتت التجارب صحته متى كان المسلمون أصحاء،والإقرار به، والشواهد عليه أكثر من أن تحصى.
شواهد من الواقع:
بالنظر فى الكلمات الكثيرة التى دخلت القاموس الغربى ببنيتها العربية يدرك الباحث ماهية وحجم الظروف التى وجدت أوروبا نفسها فيها بعد أن فقد المسلمون سلطانهم على الأصقاع التى حكموها عشرات أو مئات السنين.
فمثلا كلمات: Arratal الرطل، Alzoque السوق Magazan مخزن، Annaquel الناقل، Risk رزق، Felouque فلك، Cotton قطن، damas حرير دمشق، Sofron زعفران، Mounline حرير الموصل، Musk المسك، Tore طرح السفينة، Amiral أمير البحر، Alhanet الحنة، Dinar دينار، Morocco الجلد المراكشى، Talisman طلسمان، Alcatran القطران، Almacanter المقنطر، Alcatifa القطيفة … ونحوها،كلها تشير بوضوح أن هناك حركة تجارية متنوعة وواسعة، يظهر فيها معنى الصادرات والواردات، وكلمة Fond de Commerce فندق تشير إلى الترحال والتنقل طلبا للتجارة أو المعرفة، وكلمة Arsenal دار الصناعة، دالة بذاتها، وكذلك كلمة Tahon الطاحون، وكلمات كـ: Alcade القاضى، Allbaran البراءة تشيران إلى القضاء والحكم، وكلمات كـ: Alqur القرى، Medina المدينة، Azenhaga الزنقة، Alcoba القبة تشير إلى العمران، Alkaid القائد Almenara المنارة تشيران إلى الوظائف والمسئوليات … وهكذا ().
وأمام كل هذه المستجدات لابد للمجتمع أن ينشئ قواعد قانونية تأخذ فى الاعتبار هذه الظروف، وهذا ما رأيناه مثلا فى التفسير المكانى لنشأة نظرية الأحوال، فقد نشأت فى المدن التى ازدهرت فيها التجارة، كشمال إيطاليا، وجنوب فرنسا.
الحقيقة التاريخية:
لا ينكر إلا مغالط أن الإسلام - وله قواعده فى تنظيم الحياة والسلوك فى المجتمع - قد أحاط - دينا ودولة - بأوروبا يقينا، بل إنه فى خضم الصدام العسكرى كانت الصلات الأوروبية الفكرية والتجارية بالأقطار المسلمة – فى الشرق والغرب على السواء - فى أوجها "ومن أجل إدارة الصراع بنجاح مع عقيدة هذا المنافس الخصم القوى والخطير لابد من دراسته " ().
والغرب وإن أظهر مقتا وازدراء بالإسلام فذاك كما قالت السيدة / كارين أرمسترونج انعكاس لبواعث قلق الأوروبيين على هويتهم التى ظهرت، وتعبير عن ألوان الكبت التى يكابدونها، وباختصار فإن الخوف المرضى من الإسلام هو التعبير الساطع عن هجمة الغرب. ().
وبصرف النظر عن كون حملة مشاعل النهضة من تلامذة المسلمين النجباء فإن الإرث الإسلامى فى البلاد التى غابت عنها شمس القيادة المسلمة كان من الصلابة والقوة والاحترام بما لا يمكن إغفاله فى تكوين القانون.
وقد عرضنا لطرف من ذلك فيما سبق، ونعرض هنا لطرف آخر، هو بالتأكيد الأساس التاريخى المنطقى للثورة القانونية.
حضارة الأندلس ودورها فى النهضة:
¥