وشئ آخر أن فردريك هذا هو الذى أنشأ جامعة نابولى - وهى من المدارس الإيطالية ذات العناية الخاصة بالعلوم العربية - ومن مقتنياته أهديت إلى هذه الجامعة كتب الطب والفلسفة العربية () كما أهدى هو وابنه "مانفرد" مجموعة من المترجمات الفلسفية إلى جامعات بولونيا وباريس ()
وقد قاربت ولاية فردريك نصف القرن من الزمان، خطا فيها بأوروبا خطوات هائلة على كافة الأصعدة الإدارية والقانونية والاقتصادية والعلمية، وفى بلاطه درس وتعلم أعلام أوروبا () وعلى رأسهم توماس الأكوينى، وميخائيل سكوت () وغيرهما.
وفى عصره بزغ نجم ألبرت الكبير، وروبرت جرستيت، وروجر بيكون وغليوم الطرابلسى وآخرين، وقد أشرنا من قبل إلى المآثر القانونية ذات النزعة العربية لهؤلاء الأعلام.
وفى ظل إمبراطورية واسعة النفوذ على رأسها حكيم متهم بالميل إلى عقيدة مربيه المسلمين – ومات قتيلا – فى بلاطه هذه الكوكبة من علماء أفذاذ تعمل بصورة مشتركة فى جلسات يتباحث ويتجادل ويتناظر فيها مجموعة من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود () ومدارس وجامعات يديرها علماء منتقون، ومقرراتها مصنفات إسلامية ذات أهمية مدرسية عالية القيمة ().
وفى ظل نظام إدارى واقتصادى إسلامى خالص - لا يبعد أن يكون عماله مسلمين أو متنصرين - بعد الإسلام – أو مستعربين، وفى ظل عداء شديد للكنيسة والمؤسسات الكنسية، فى ظل هذا كله تصدر تشريعات ثورية، وأول مجموعة للقوانين الإمبراطورية والقوانين المحلية فهل يعقل أن يكون مصدرها كنسيا أو رومانيا.؟
صلات منابع النهضة القانونية بالإسلام والعرب:
على الرغم من التعتيم المقصود على دور المدارس والمدن ذات الصلة الوثيقة بالنظام والوعى والأعراف الإسلامية كطليطلة وبالرمو، وأكسفورد، فإن المدن التى قيل إنها شهدت حركة البعث الأولى كبادوا وبولونيا كانت على صلات جيدة بعطاء المسلمين، ويكفى أنها من مدن الشمال التى كانت لها صلات تجارية واسعة بالمسلمين، وقد حظيت بولونيا بدعم الإمبراطور فردريك الثانى وابنه كما ذكرنا، كما كانت جامعتها من بين خمس جامعات- هى جامعات: باريس، وأكسفورد، وسلمنك، و جامعة المدينة البابوية kurie وبولونيا - صادق مجمع فيينا الكنسى فى عام 1312م على تعليم اللغة العربية فيها ().
ولبادوا وبولونيا تاريخهما الثابت فى الاحتفاء بالفلسفة الرشدية، حتى قيل " إن بادوا بالرشدية أصبحت بمنزلة الحى اللاتينى للبندقية ()، على أن بولونيا تقع فى القلب من المدن والجمهوريات التى احتفت بالعلوم العربية، ففى الشرق منها تقع رافنا، وفى الشمال الشرقى تقع بادوا، وفى جنوبيها فلورنسة، وفى غربيها جنوة ونيس حيث الإمارات العربية.
ومع هذا فإن ثمة شهادتين تثيران الانتباه:
أولاهما: ما نقل عن المؤرخ ديورانت من قوله " وأغفلت إيطاليا تحت حكم اللومبارد، وغالة " فرنسا " تحت حكم الفرنجة، وإنجلترا تحت حكم السكسون، وأسبانيا تحت حكم القوط، أغفلت هذه البلاد كلها أوامر جوستنيان " ().
والثانية: ما ذكره توبى هاف من قوله " على أن مشرعى بولونيا المعاصرين لأبيلار (1079 - 1142) أدخلوا المبادئ الكلية المستقاة من حالات جزئية، وكان ذلك معارضا للتصور الرومانى القديم للقاعدة، تقرير قصير من بنود محددة " ().
ومحصلة الشهادتين أن أوامر جوستنيان لم تغفل فحسب إلى ما بعد أورنريوس، بل إن هؤلاء المشرعين كانوا ينسجون على غير منوالها تماما، فبينما عنى الرومان بالحالات الفردية " وكانوا يشتغلون بقضية جزئية بعد قضية جزئية بصبر ودقة، ويلحون على تقييد تطبيق الأحكام الجزئية وفقا لمواقف تحددها النصوص" () عنى مشرعوا بولونيا المعاصرين لأبيلار بالمبادئ الكلية المستقاة من حالات جزئية.
¥