ومن الغيبة أنْ تذكر أخاك المسلم بأي شيء يكرهه حتى وإنْ لم تكن تقصد ذلك فقد صحّ أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد تعني قصيرة - فقال: ((لقد قُلْتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته)) قالت: وحكيتُ له إنساناً فقال: ((ما أحب أني حكيتُ إنساناً وأن لي كذا وكذا)).
والغيبة داءٌ فتّاكٌ ومِعْوَلٌ هدّام يفتك في بنيان المجتمع، وهو أسرع إفساداً في المجتمع من الآكلة في الجسد، والغيبة تُعرِّض العلاقات للانهيار وتزعزع الثقة بين الناس وتغيّر الموازين وتقلع المحبة والألفة والنصرة من بين المؤمنين، وتثبت جذور الشر والفساد بين الناس، وقد بيّن الحسن البصري رحمه الله أجناس الغيبة وحدودها فقال: ((الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان، فأما الغيبة: فهو أنْ تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأنْ تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فأنْ تقول فيه ما ليس فيه)).
ومن أعظم ما ورد في الزجر عن الغيبة قوله تعالى:
((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ((
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ((وقد ورد فيها (يعني: الغيبة) الزجر الأكبر، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل:
((أيحب أحدكم أنْ يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه))، أي: كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً؛ فإنَّ عقوبته أشد من هذا)).
أخي المسلم الكريم لقد صوّرَ اللهُ الإنسانَ الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة فمثّله بمن يأكل لحم أخيه ميتاً، ويكفي قبحاً أنْ يجلس الإنسان على جيفة أخيه المسلم يقطع من لحمه ويأكل.
والغيبة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالإجماع قال القرطبي: ((لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ من اغتاب أحداً عليه أنْ يتوب إلى الله عز وجل)).
والغيبة مرض خطير، وشر مستطير يفتك الأمة ويبث العداوة والبغضاء بين أفرادها، وهذا المرض لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحم الله.
ومرض الغيبة عضال، كم أحدث من فتنة، وكم أثار من ضغينة، وكم فرّق بين أحبة وشتت بيوتاً.
والغيبة فاكهة أهل المجالس الخبيثة، وغيبة أهل العلم والصلاح أشد قبحاً وأعظم ظلماً؛ فلحومهم مسمومة، وسنة الله في عقوبة منتقصيهم معلومة.
ولعل من أسباب الغيبة الحسد، الذي يحصل لكثير من الذين ابتعدوا عن مراقبة الله، فتجد الكثيرين يغتابون آخرين حسداً من عند أنفسهم؛ لأنَّ أخاهم حصل على ما لم يحصلوا عليه.
ومن أسباب الغيبة المجاملة والمداهنة على حساب
الدين؛ فتجد الرجل يغتاب أخاه المسلم؛ موافقة لجلسائه وأصحابه.
ومن أسباب الغيبة الكبر واستحقار الآخرين؛ لأنَّه يثقل عليه أنْ يرتفع عليه غيره فيقدح بهم في المجالس؛ لإلصاق العيب بهم، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
ومن أسباب الغيبة السخرية والتنقص من الآخرين، فإنَّ بعض الناس يغتاب إخوانه المسلمين عن طريق السخرية، وغيرها من الأسباب والدسائس التي يوحيها الشيطان في صاحب الغيبة في قوالب شتى.
وللغيبة أضرار عظيمة على الفرد والمجتمع، ومن أضرارها أنَّها تُعرِّض صاحبها للافتضاح، فكلما فضحَ الإنسانُ غيرَه فإنَّ الله يفضحه؛ إذ الجزاء من جنس العمل، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّه من يتَّبع عوراتهم يتبع اللهُ عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
ومن أضرار الغيبة أنها أذيةٌ لعباد الله تعالى، ومن آذى عباد الله فقد توعده الله تعالى بعذاب شديد، قال تعالى:
¥