الفجر الشرعي فلا بد له من أمرين، أحدهما أن يدرس الأحاديث النبوية التي تفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق، وأقوال الصحابة و التابعين والأئمة المجتهدين، الثاني: أن يكون ممن اعتاد رؤية الفجر لكونه مؤذنا أو لكثرة أسفاره في البراري. ولبيان الأمر الأول،
اشرع في تأليف هذا الكتاب واسميه بيان الفجر الصادق وامتيازه عن الفجر الكاذب، وذلك يظهر في شواهد:
الأول تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. فَسَّر هذه الآية ابن كثير رحمه الله بأحاديث:
الأول: ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمنَعنَّكَم أذان بِلال من سُحُورِكم فإنَّه يُنادِي بِلَيْل فكلُواْ واشربُواْ حتى أذان ابن أمِّ مَكتُوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" (لفظ البخاري).
نفهم من هذا الحديث وغيره مما في معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له في رمضان مؤذنان أحدهما بَصِير وهو بلال والآخر أعْمَى وهو ابن أمِّ مكتوم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن البصير الذي ينبه الناس على قرب الصباح يؤذن بليل أي قبل طلوع الفجر، وجعل المؤذن الأعمى يؤذن بعدما يطلع الفجر، فما مقصوده صلى الله عليه وسلم بذلك؟ لو فكَّرنا بعقولنا الناقصة لظهر لنا أن المؤذن البصير وهو بلال، أولى بالأذان الأخير وأحق به من المؤذن الأعمى ليتحرى طلوع الفجر ببصره وعند أول بَصِيصٍ مِن نُورِ الفجر يؤذن حتى يمتنع الناس من الأكل والشرب عند أول طلوع الفجر، ويكون المؤذن الأعمى هو الذي يؤذِّن بِلَيْل ليعلم الناس أن الصبح قريب، ولكنه عليه الصلاة و السلام عكس فجعل الأعمى هو الذي يؤذن الأذان الذي يحرم به الطعام والشراب وتحل به الصلاة، إذ أراد بذلك التوسيع على أمته ولا شك، ولا يريد التَّضْيِّيق، فمن ضيَّقَ ما وسعه الله ورسوله فقد اخطأ، وقوله تعالى: {حتى يتبيَّن لكم}. مطابق للحديث فإنه لم يقل حتى يطلع الفجر بل قال حتى يتبين لكم أيها الناس، أي لجميع الناس بحيث لا يشك فيه أحد وسيأتي ما يوضح هذا إن شاء الله.
وفي رواية البخاري ومسلم (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكثوم، وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت، أصبحت). فأفهم هذا المعنى إن كنت من أهله.
الحديث الثاني:
ثم قال ابن كثير، وقال الإمام أحمد وذكر سنده عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَيسَ الفجر المُستَطِيل في الأفُق ولكن المُعترض الأحمر). ورواه الترمذي ولفظه: (كلوا واشربوا ولا يُهِيدَنَّكُم السَّاطِع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر).ثم ذكر ابن كثير روايات ابن جرير إمام المفسرين، لهذا الحديث.
الرواية الأولى: عن سُمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغُرَنَّكم نِداء بِلال وهذا البياض، حتى يَنفَجِرَ الفجر أو يطلع الفجر).
الرواية الثانية: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض العمود الصبح حتى يستطير).
الرواية الثالثة: رواه مسلم في صحيحه باللفظ الذي رواه به ابن جرير.
الرواية الرابعة لابن جرير أيضا: عن محمد بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السَّرحان لا يُحَرِّم شيئاً، وإنما المستطير الذي يأخذ الأفق، فأنه يحل الصلاة ويحرم الطعام) وهذا مرسل جيد
قال محمد تقي الدين: ذَنب السَّرحان معناه ذنب الذئب لأنه يرفعه فيصير صاعداً إلى فوق، فشبه الفجر الكاذب به.
رواه عبد الرزاق بسنده عن ابن عباس قال: "هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرِّم شيئاً، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يُحَرِّم الشَّراب"، وقال عطاء: "فأما إذا سطع سطوعا في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يَحرُمُ به شراب للصائم، ولا تحل به صلاة ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفوات الحج"، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله. معنى فوات الحج أن الحاج إذا فاته الوقوف بعرفة نهاراً يوم التاسع من ذي الحجة، وأدركه قبل طلوع الفجر الصادق الموصوف
¥