الوجود واحدا, قال بأن الجوهر العام المنبث في العالم، والذي جعل منه الوحدة هو الذات الإلهية.
ومن المهم التنبيه على تنوع أساليب ابن العربي في التعبير عن وحدته, وتسميتها بأسماء مختلفة, فكثرة الأسماء لا تدل على تعدد المسميات, لأن الحقيقة الكلية واحدة وهي الوجود الأول والأخير, والإنسان الكامل , وحقيقة الحقائق, والمادة الأولى ... إلى نحو عشرين اسما تطلق بعبارات مختلفة , والأصل واحد كما قال شاعرهم: [الطويل]
عباراتنا شتى وحسنك واحد ** وكل إلى ذاك الجمال يشير
وكما قال الشيخ محمد الحراق التطواني: [الخفيف]
حكمة الشرع أثبتتنيَّ لما ** سمَّتِ الكون كله بأسامي
ونفى جملتي انفرادُك بالذات ** والأسماء والنعوت العظام.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه لا فرق بين هذه الأفكار والنظريات الثلاث: وحدة الوجود, والاتحاد، والحلول , والحق أن بينهما فرقا واضحا؛ لأن ما عدا الوحدة يقتضي الإثنينية, فالاتحاد لا بد فيه من متحِد ومتحَد به, والحلول لا بد فيه من حالٍّ ومَحَلًّ, ولكنه رغم هذا, إذا تأمل الباحث أقوال أصحابها, وجدها تنتهي إلى الوحدة, وهي أن الحق هو الخلق والعكس.
وأصحاب الحلول قالوا: إن السالك إذا وصل إلى درجة خاصة في الصفاء, حل الله فيه, كالماء في العود الأخضر, دون تشابه أو تغاير, وصح أن يقول: [الرمل]
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ** نحن روحان حللنا بدنا
كما قال الحلاج , ويقول الحراق في التعبير عن هذا الاتحاد, وفيه معنى الحلول: [الوافر]
به صار التعدد ذا اتحاد ** بلا مزج وذا شيء أحارا
وهذا كما ترى شديد الصلة بعقيدة الحلول النصرانية, وقد أفصح عن هذا أبو منصور الحلاج من كبار فلاسفة الصوفية , المقتول بسبب فكرته هذه فقال: [السريع]
سبحان من أظهر ناسوته ** سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ** في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ** كلحظة الحاجب بالحاجب
والناسوت طبيعة الإنسان, واللاهوت معنى الإلهية, والفرق بين الاتحاد والحلول بعد الاعتراف بالإثنينية صغير, وهو أن يتنازل الله ـ تعالى عن إفك الحلوليين ـ فيحل في بعض المصطفين من عباده عند بلوغ درجة خاصة في الصفاء كما سبق, بينما الاتحاديون يزعمون أنهم يرتفعون بأنفسهم, وتسمو أرواحهم إلى لقاء الله تعالى, حتى تفنى فيه, أو تتحد به, ومن أجل هذا الخلط والالتباس مع وحدة الهوى في نهاية المطاف, وتنوع أساليب دعاة الوحدة والحلول والاتحاد في شرحه, والدعوة إليه, اعتبرها شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه شيئا واحدا, وألغى هذا الفرق النظري الطفيف في ردوده المتعددة على أهل الوحدة والاتحاد والحلول , ولا حق لمن اعترض على صنيعه, هذا مع أن الهدف ظاهر, وهو المقصود الأهم عند ابن تيمية بالرد, وبيان خطره على الدين والفطرة, وتعجبني عبارة البهاء العاملي الشيعي في رسالته (الوحدة الوجودية) , في بيانها حيث يقول: (خلاصة المذهب, أن لا وجود إلا الوجود الواحد, ومع ذلك يتعدد بتعدد التَّعَيُّنَات تعينا حقيقيا واقعا في نفس الأمر, ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددا في ذات الوجود, كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددا في حقيقة الإنسان).
وقد كثرت أقوال هؤلاء جدا في بيان معتقدهم هذا, والدعوة إليه بشتى الأساليب شعرا ونثرا, وأشدهم إيغالا في هذا عمر ابن الفارض المصري, لا سيما في تائيته الكبرى المسماة "تائية السلوك". ومعظم شعره في هذا , ولرقته المتناهية، وجمال شعره، وصوره البلاغية، ومحسناته البديعية، انتشر شعره انتشار النار في الهشيم، وتغنى به المنشدون، ورقص على إيقاعه الراقصون في الزوايا الصوفية في الشرق والغرب, ويليه أبو الحسن الشُشتَري الأندلسي في أشعاره وأزجاله، ويحاكيه من بعيد محمد الحراق التطواني، مع وضوح الفكرة وتقريبها للأذهان, وأغلب شعره الموزون والملحون ينعق بها, مع أنه في الملحون والزجل أشعر وأمكن , فلنستمع إليه يقول: [مجزوء الرمل]
كنت ما بيني وبيني ** غائبا عني بأيني
والذي أهواه حقا ** لم يزل ذاتي وعيني
فانظروني تبصروه ** إنه والله أنيوقد سئل مرة وهو في درس التفسير بالجامع الكبير بتطوان عن الدليل على وجود الله, فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال ارتجالا: [الخفيف]
نحن في مذهب الغرام أذله ** إن أقمنا على الحبيب أَدِلَّهْ
¥